خاص – سيلدا يوسف/دمشق
تتردد عبارة واحدة في أفواه الموظفين السوريين، تلخص حالتهم المالية المتردية: “الراتب الشهري لا يكفي لمدة ثلاثين يوماً، وبالكاد يدوم ثلاثين ساعة”، حيث يعيش موظف الدولة والعاملون في القطاع الخاص في حالة من العجز المالي، إذ يتقاضون رواتبهم بالليرة السورية، بينما يجدون أنفسهم مرغمين على شراء كل شيء وفق سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي.
وفي سوريا، تتغيّر الأسعار بشكل متقلّب وغير مستقر، فهي تتفاوت من محل إلى آخر، وحتى داخل نفس الشارع في بعض الأحيان. وتشهد الليرة انهياراً متواصلاً، بينما يرتفع سعر الدولار باستمرار، مما يزيد من تعقيد الوضع المالي للسكان لاسيما في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، ويزيد من حالة الارتباك عند الأفراد خاصة محدودي الدخل منهم.
الأزمة الاقتصادية وصراع الحياة اليومية والنفسية
تأثير الوضع الاقتصادي الصعب لم يقتصر على الجانب المادي فحسب، بل انعكس أيضاً على الصحة النفسية للمواطنين. منى غانم، موظفة في مكتب المتابعة بمحافظة دمشق، تعاني من هذا الوضع بشكل ملحوظ.
وتقول لموقع “963+”: “راتبي لا يكفي لتغطية نفقاتي لمدة أسبوع، فكيف سأتمكن من تلبية احتياجات عائلتي؟ الحياة أصبحت صعبة جداً ولا يمكنني التحمّل أكثر”.
وحتى عام 2020، كانت الأمور تبدو مقبولة نسبياً في سوريا على الرغم من ضعف الرواتب. لكن بدأ الانهيار يتسارع منذ ذلك العام، ليصل في هذا العام إلى أكثر من 15 ألف ليرة، مما أثر على الأسعار والرواتب بشكل كبير. وتزايدت الفجوة بين الرواتب والأسعار، حيث ارتفعت الأخيرة بنسبة تقارب 300 مرة منذ عام 2011، مما أدى إلى تفاقم الفقر بين السكان.
ويشير أمجد زاهر، وهو موظف في وزارة الإدارة المحلية والبيئة ويعيش مع أسرته المكونة من خمسة أشخاص، إلى أن راتبه لا يكفي لتغطية أجرة منزله.
كما أضاف: “نحن نعيش في ظروف قاسية، حيث أصبحت اللحوم والبيض والمأكولات الأخرى أشياء غير متاحة بسبب ارتفاع الأسعار. حتى في بعض الأيام نضطر للنوم دون تناول العشاء بسبب نقص الموارد”.
وكان الرئيس السوري بشار الأسد أصدر في 5 فبراير/شباط الماضي، المرسومين التشريعيين رقم (7) و(8) لعام 2024 المتضمنين زيادة قدرها 50% في الرواتب والأجور المقطوعة للعاملين والموظفين في القطاع العام من مدنيين وعسكريين ومتعاقدين ومياومين وأصحاب المعاشات التقاعدية، وتعدّ سارية ابتداء من الشهر المقبل.
وجاء القرار متزامنا مع رفع وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك سعر بيع ربطة الخبز بنسبة 100% في الأفران العامة والخاصة، ورفع سعر بيع اللتر من مادة المازوت للأفران إلى 2000 ليرة بدلا من 700 ليرة.
ومن جهته، أشار وزير المالية في الحكومة السورية كنان ياغي، في تصريح لصحيفة الوطن، إلى أن التكاليف المترتبة على الحكومة بعد هذه الزيادة بلغت 2.5 تريليون ليرة سورية.
ويتراوح متوسط الرواتب والأجور في القطاع العام بعد الزيادة بين 375 و400 ألف ليرة (بين 25 و27 دولارا)، في حين سيبلغ الحد الأدنى للأجور في القطاعين العام والخاص 280 ألف ليرة (19 دولارا)، بحسب ياغي.
تأتي زيادة الأجور ورواتب العاملين والموظفين في القطاع العام وسط ارتفاع تدريجي ومستمر في أسعار السلع الأساسية الغذائية والاستهلاكية منذ مطلع العام الجاري.
ورغم هذه المعاناة الكبيرة، تفتقر الحكومة إلى إيجاد حلولٍ لتقليص الفجوة الهائلة بين الرواتب والأسعار، حيث لا تستطيع زيادة الرواتب بشكل كبير أو حتى ضبط الأسعار. بالمقابل، تفشل في وقف تدهور سعر الصرف ومكافحة ارتفاع الأسعار، ملقية باللوم على العقوبات الدولية المفروضة على دمشق ونقص مصادر الدخل.
وكانت أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية شهدت خلال الشهرين الماضيين ارتفاعا بنسبة 25%، بحسب تقرير لصحيفة البعث الرسمية، حيث قال عضو غرفة تجارة دمشق ياسر إكريم إن “القدرة الشرائية للمواطن بعد الزيادة الأخيرة في الرواتب لا تزال ضعيفة، حيث يحتاج إلى تحسين جيد للدخل المعيشي كي تزول الفجوة بين الدخل والتضخم”.
وبالتوازي مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، تزيد الفواتير من الضغط على السوريين، فهي ترتفع عشرات الأضعاف كل فترة، بينما تبقى الخدمات العامة دون تحسن والضرائب ترتفع بشكل مستمر، كما تشهد أسعار الأدوية والحاجات الأساسية ارتفاعاً ملحوظًا.
وتعاني منيرة الصالح، وهي ربة المنزل وأم لأربعة أطفال، من صعوبة تأمين تكاليف المدرسة، وتقول لـ “963+”: “لا نستطيع تحمّل تكاليف المدرسة وشراء اللوازم المدرسية والقرطاسية، وحتى الأسعار المبالغ فيها للمنظفات تصعّب الحياة علينا”.
وبات مسعود الجردي، يشتري السكر والزيت بالوقية تعادل (200 غرام)، ويقول: “أي طبخة بسيطة تكلف أكثر من خمسين ألف ليرة (ما يعادل 3.3 دولار) رغم أن راتبي يعادل أقل من عشرين دولاراً، لكن مصروفي يتجاوز مئتين وخمسين دولاراً”.
ويستفيد تجار الأزمة والمتلاعبون في الأسعار على حساب معاناة الناس، حيث يرى البعض في هذه الأزمة فرصة لتحقيق أرباح غير مشروعة، فيما يبقى القانون والرقابة والمحاسبة معدومين في هذه الظروف.
موت سريع للطبقة الوسطى
نتيجة لهذا الواقع، انقسم المجتمع السوري إلى فئة مسحوقة تعيش في فقر مدقع، مقابل طبقة ثرية تزداد ثراءً بسرعة متزايدة. ويشير الباحث الاقتصادي حاتم رافع إلى أن “الحكومة تتحمل جزءًا كبيراً من هذه المشكلة”، كما يعتبر “أن الحلول لا تأتي من خلال النظام الضريبي الحالي”، الذي وصفه لـ “963+” بأنه “مهترئ وغير فعّال”.
إضافة إلى ذلك، يرى رافع، أن “الطبقة الوسطى في سوريا قد اختفت تقريبًا بسبب الظروف المعيشية الصعبة”، وذلك نتيجة الحرب و”فقدان المجتمع لمعظم كفاءاته وخاصة الشباب والكوادر العلمية التي غادرت البلاد بحثاً عن فرصٍ أفضل”.
ويعاني نحو 12.1 مليون سوري (نحو 50% من السكان) من انعدام الأمن الغذائي، وهناك 2.9 مليون آخرين معرضون لخطر الانزلاق إلى الجوع، وفق أحدث تقارير برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.
ويشير الأستاذ في جامعة دمشق، عابد فضلية، إلى أن “ارتفاع الأسعار ناجم عن فوضى السوق واحتكار بعض السلع الضرورية والغذائية، إضافة إلى تعقيد الإجراءات المصرفية وقلة السيولة”.
ويضيف فضلية لـ”963+”، أن ذلك “يؤدي إلى ارتفاع نسبة التضخم وتناقص الودائع، مما يقلص من قدرة البنوك على منح القروض”.
ويقترح الباحث الاقتصادي، الدكتور فراس أسعد، في حديث مع “963+”، سلسلة من الحلول المتعلقة بتطبيق قوانين رادعة لمحاربة الفساد، وتغيير نمط التفكير الاقتصادي، وتبني استراتيجية اقتصادية جديدة.
ويشير إلى أنه “قد يكون من الضروري تعويم العملة السورية، كجزء من إجراءات الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية”.
ويقول أسعد، إن “مواجهة هذه التحديات المعيشية تتطلب جهوداً حقيقية من الحكومة لإيجاد حلول جذرية بما في ذلك مكافحة الفساد وتحسين السياسات الاقتصادية وتقديم الدعم للمواطنين الأشد فقراً”.
وشدد سكان في العاصمة دمشق، على أنه “من الضروري أيضاً تعزيز الرقابة وتطبيق القوانين بشكل صارم لضمان حماية حقوقنا وتقليل الانحرافات الاقتصادية”.