“أبشّركم”… ابتسم الخبير التربوي ميشال المغربي قليلاً، ثم قطّب جبينه، وقال: “إن استمرار هذا النموذج البدائي في التعليم في بلادنا يبقينا خارج التاريخ، ولا أمل في تغيير قريب”.
الذكي فالأذكى
ليس المغربي متشائماً لكنه واقعي. يتحدث بلوعة عن طلاب دخلوا في بداية حزيران/يونيو الجاري أصحاء إلى مراكز امتحانات الشهادة الثانوية، “وخرجوا وقد فقدوا ما بقي من عقلهم، فهذا يوم يتحضرون له عامين كاملين، فتذهب أحلامهم بجرّة قلم”. يضيف لـ”963+”: “نعاني خللاً بنيوياً في تركيبة المجتمع والدولة والمنظومة التعليمية، فالكل يريد أن يكون طبيباً أو مهندساً، وفي أذهان السوريين أن من يدخل ’طب‘ أو ’هندسة‘ هو وحده من يؤمن مستقبله، فإذا حلّت عليه مصيبة البكالوريا، فقد كل أمل بحياة كريمة، وأسوأ… فقد احترام كل العائلة”.
بحسبه، حتى في الدول النامية، يختار الطالب ما يشعر أنه سيحقق له طموحه، ويناسب إمكانياته، “أما عندنا، فالعلامات والحفظ ’الببغائي‘ وأسلوب التلقين هي سمات التعليم، ولهذه الأسباب نفقد الكوادر البشرية المميزة، ويصاب طلابنا بأزمات نفسية في مراكز الامتحانات، ترافقهم مدى الحياة، يورثونها لأولادهم من بعدهم”.
لا يوافق مصدر في وزارة التربية بالحكومة السورية ما يقال عن “الخلل البنيوي”، فيؤكد أن الاستراتيجية تغيرت في امتحانات الشهادات الحكومية. يقول لـ”963+”: “عندنا الآن سؤال للطالب الذكي، وآخر لطالب الأذكى، وثالث للأكثر ذكاءً، وسؤال للأسرع، وسؤال للأبرع في اجتراح الحلول السريعة للوصول إلى النتيجة الصحيحة في الوقت المحدد”، وفي رأيه أن هذا الدليل كاف لدحض مسألة “الببغائية” التي طرحها المغربي.
هستيريا تعليمية!
“إنها الهستيريا بأبهى حللها”، كما يقول المهندس ثامر حسن، مدرب في مركز للأستذة الصناعية، لـ”963+”، فيردّ المصدر في وزارة التربية بالقول إن الهستيريا “رأي أو وجهة نظر، وليست الحقيقة، بحسب المصدر نفسه. يقول: “بعد الحرب، الجميع بات يحلم بالتسهيلات أو الغش أو الرشوة”. فدور الوزارة هو التربية والتعليم، وليس تحقيق أحلام الأهالي في أبنائهم، “وحصول المئات على علامات تامة لن يحقق أي قيم مضافة”.
ويضيف: “التربية ليست ضد الطالب ومستقبله، ولا سيما الطالب الذي تمم واجباته، لكن هذا لا يعني أن تساوي بين مستويات متفاوتة من الطلاب، أو تمكنهم من تحقيق مكانة وهمية ليسوا جديرون بها”. فلا ضرورة أن يدخل الطلاب في نوبات هستيرية بعد كل امتحان، إنما على كل طالب أن يدرك فعلياً قدراته وإمكانياته، “والبلد يحتاج إلى مهن كثيرة، غير الطب والهندسة”.
بحسب حسن، هناك ضعف في تقنيات التعليم والتحصيل العلمي، “وانفصال في مفاضلة الثانوية عن سوق العمل، باعتمادها على طريقة المفاضلة العامة ومسابقات التوظيف في القطاع العام”، وهذا سبب خللاً كبيراً في توزيع الدخل وتحقيق القيم المضافة، ووفر أجراً أعلى لأصحاب الشهادات، ونقصاً شديداً في الحرف الأخرى، ولهذا يطلب الأهالي الأفضل لأولادهم، “فليس في الأمر أحلام، إنما واقع مرير”.
جعل الأهالي المهن والحرف مصدر شؤم وذل، رغم أن المهن اليدوية مطلوبة جداً، وتدر مالاً وفيراً، خصوصاً أن الاستيراد قليل جداً، وكل شيء في سوريا اليوم مستعمل وقديم وبحاجة الصيانة، ويحمل حسن الأهالي والوزارة معاً مسؤولية “خلق” معايير قاسية تنهك الطالب، وتشعره بالمهانة إن لم يحصل الطب والهندسة… “إلى ذلك، مهما اجتهد، فلن يحصل على وظيفة بسهولة”.
اقتصادياً.. ونفسياً
هذه المعايير مسؤولة أولاً عن إنهاك العائلات اقتصادياً. يقول المغربي: “طلباً للعلى، يقع الأهالي في حبائل المستغلين في السلك التربوي، فالغريق يتعلق بحبال الهواء”، مذكراً بأن بعض المعاهد كان يطلب مليون ليرة سورية (67 دولاراً تقريباً) على الأقل لمتابعة الطالب في مادة الرياضيات وحدها، وبأن هناك من يدفعون الملايين للمراقبين حتى يحلوا الأسئلة ويقدموا الإجابات لأولادهم، أو ليساعدوهم في حلّ ما يستعصي عليهم.
يستثمر كثير من هؤلاء “المستغلين” القلق الذي يجتاح الطلاب وأهاليهم، خصوصاً من يُشاع عنهم أن توقعاتهم للأسئلة تصيب، فيرتفع الطلب عليهم قبل الامتحانات، ويسعّرون الحصة الدراسية بأسعار خيالية من دون رحمة، فيفوق دخلهم دخل أشهر طبيب في سوريا… “فلماذا يطمحون إلى دخول كلية الطب إن كان التعليم طريقاً أقصر اليوم إلى الثراء؟”، كما يقول المغربي.
ويتدخل المرشد الاجتماعي عيسى إبراهيم هنا قائلاً لـ”963+”: “الضرر ليس اقتصادياً فحسب، إنما نفسياً أيضاً. ومهما تحدثت وزارة التربية عن العدل في تقديم الأسئلة، ذكي فأذكى فأكثر ذكاء، لا مفر من الاعتراف بأن أغلبية طلابنا مصابون برهاب الامتحان”، فالفشل في التعامل مع هذه المشكلة يجبر الطالب على الانحراف نحو التدخين والدخول في حالات غير مبررة من الكآبة نتيجة ضغوط الموجودين حوله بالترهيب والتحذير والتخويف من سوء المصير، والحثّ على الدراسة ليل نهار من دون رأفة بمشاعره. وهذا ما يحصل في كل بيت في سوريا تقريباً.
أين المعرفة
يرى المهندس حسن حل المعضلة التعليمية في سوريا “في نشر الوعي عبر الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بأهمية التمهين الصناعي والأستذة الصناعية واليد العاملة الخبيرة التي باتت اليوم الأعلى أجراً، والأكثر طلباً حتى في بلدان الغرب، وعلى الأبناء اختيار أعمال تناسبهم وقادرون على العمل والابداع من خلالها لا مجرد إرضاء الأهل والأقارب والمجتمع”.
لكن، ما لا ينتبه إليه الطلاب ولا أهاليهم، في خضم سعيهم المحموم إلى “الفوز” بما يكفي من علامات البكالوريا، هو أن المستقبل يسير في طريق أخرى. فلا الطب بقي مهنة المتفوقين، ولا الهندسة، في زمن المعرفة المتقدمة والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي… “لكن، من أين يا حسرة؟!”، كما يقول إبراهيم، مضيفاً: “إن تحصيل المعرفة ليس هدفاً مدرجاً ضمن أهداف مناهجنا التربوية، وهو المطلوب اليوم لمواكبة الثورة الرقمية التي تجتاح العالم بالذكاء الاصطناعي التوليدي”.
المعرفة الجديدة تحتاج إلى زرع مؤهلات ومهارات في الطلب منذ الصغر، “بينما الوضع عندنا أن الطالب ينهي 12 عاماً في المرحلة الثانوية، فينسى جل ما تعلمه”.
فيعقب المغربي في الختام: “نعود إلى نقطة البداية، إلى الخلل البنيوي في المنظومة التعليمية، حيث الأولوية للتلقين والببغائية، وهذان لا يصنعان علماً ولا متعلمين”.