لماذا غاب الحوار بين السوريين في زحمة الأزمة التي تشهدها بلادهم منذ 13 عاماً؟ هل لأن القوى السياسية من نظام ومعارضة لم تكن مهيأة لحوار كان البلاد بحاجة ماسة إليه؟ وما دور الخارج في عدم حصول مثل هذا الحوار المنشود؟ وهل ما زال الحوار بينهم ممكناً بعد أن باتت سوريا مقسمة عملياً إلى كيانات شبه منفصلة؟
أسئلة قد تصلح لدراسة تحليلية معمقة وليست مجرد مقالة، لكن الثابت أن أهمية الموضوع تستدعي إثارة هذه القضية الحيوية بعد أن تعقدت الأمور، وتقاسمت قوى أمر الواقع النفوذ في مناطق سيطرتها، وارتبط كل طرف بقوى إقليمية ودولية، حيث لكل طرف أجندته التي تختلف وربما تتناقض مع الآخر، ولعل كل ما سبق، ساهم في فقدان السوريين قدرتهم على الحوار، وعلى العمل الجماعي، وسط حاجة ماسة إلى حوار يفضي إلى عملية سياسية، تنتج توافقات وطنيّة تنقذ البلاد من القعر الذي وقع فيه، وتؤسس لدولة مدنية ديموقراطية بمفاهيم عصرية.
ثمة من يرى أن السبب الأساسي لغياب الحوار بين السوريين، هو البنية الأمنية التي قام النظام عليها، ثم نهجه الأمني في التعامل مع كل من هو مختلف عنه سياسياً، ومن ثم رؤيته التي قامت على تصنيف كل من يختلف معه على أنه معاد إن لم نقل إرهابي، بعد أن أصبح شعار مكافحة الإرهاب، شعاراً سياسياً يمكن الاستثمار فيه، وهو ما زاد من انتشار العنف والإرهاب على حساب الحوار والتعايش السلمي، وإذا كان الواقع على جبهة النظام بهذا الشكل، فإن الشعارات التي رفعتها الفصائل المسلحة المسيطرة على شمال غربي البلاد، وممارساتها على أرض الواقع، تجاوزت المنطق الأمني نفسه، إلى نشر الفوضى والعنف في كل الاتجاهات، بل الذهاب بعيداً في رفع شعارات أيديولوجية دينية، وصلت إلى حد إقامة ما يشبه إمارة إسلامية في هذه المناطق، فيما لم تجد دعوات قوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي تسيطر على شرقي الفرات، طريقها إلى الحياة السياسية، كما أن مؤتمراتها الدورية التي عقدت بهذا الخصوص بقيت من دون فاعلية سياسية، كما هو حال المؤتمرات التي عقدتها نخب ثقافية وسياسية واقتصادية في العديد من العواصم، من الدوحة إلى باريس مروراً بإسطنبول، وكذلك المؤتمرات التي عقدتها اللجنة الدستورية في جنيف، وتلك التي عقدت بين النظام والمعارضة برعاية روسية تركية إيرانية في أستانا، وهكذا بدت المحاولات الحوارية التي جرت، وكأنها مصممة لشراء الوقت، وليس حوار من أجل التفاوض على قضايا جوهرية للخروج من الأزمة القائمة والتأسيس للمستقبل.
من دون شك، ما سبق لا يقلل من أهمية الحوار، بل يؤكد الحاجة الماسة له في يومنا هذا أكثر من أي وقت مضى، بل إنه بات مطلباً أساسياً إن لم نقل شرطاً للخروج من الأزمة التي بدأت تراوح مكانها في الأعوام الأخيرة على وقع المتغيّرات الإقليمية والدولية الجارية، في ظل تراجع الاهتمام الدولي بالأزمة السورية، فهل يمتلك السوريون زمام المبادرة في التوجه نحو حوار مختلف عن ما سبق؟ سؤال قد يبدو الجواب عليه، في ضوء تجربة العقد الماضي ليس سوى وهم أو أقرب إلى الكذب، لكن مهما كان الواقع سوادوياً، ومهما حصل من شروخ بين الأطراف السورية خلال السنوات الماضية، يبقى الحوار أساسياً للخروج من الأزمة، وإلا فإن الأمور ستذهب إلى ما هو أسوأ وأعقد وأصعب.
صحيح أن القوى الأجنبية تتمتع بتأثير كبير على القوى والأطراف السورية، لكن استنزاف روسيا في الحرب التي شنتها على أوكرانيا، وانهماك الولايات المتحدة بعد حرب أوكرانيا في حرب غزة، وتورط إيران في الحربين السابقتين وسط ملامح مواجهة معقدة مع إسرائيل، ووقوع تركيا الجارة الكبرى لسوريا تحت وقع تداعيات أزمتها المالية والاقتصادية وصراعاتها الكثيرة، وهذه كلها عوامل قد تكون مهمة في دفع السوريين إلى الجنوح نحو حوار داخلي مختلف، ولكن بأي شروط؟ في المقام الأول ينبغي أن يكون الحوار متجه نحو الوصول إلى توافقات وطنيّة لا أن يحاول أي طرف فرض أجندته على الطرف الآخر، وهو ما يقتضي البحث عن نقاط تلاقي، والسعي إلى حلّ وسط للقضايا الخلافية، بعيداً عن النظرات الضيقة التي تقوم على الحسابات السلطوية والحزبية والعنصرية، فلماذا لا يكون هناك حوار عربي – كردي في إطار وطني سوري؟ ولماذا لا يكون هناك حوار جدي حول علاقة الدين بالدولة والمجتمع؟ لماذا لا يكون هناك نقاش عميق حول الدستور ومفاهيم الديموقراطية والحكم والانتخابات؟ أسئلة تصلح أن تكون على طاولة حوار السوريين، ولا بدّ أن يكون ذلك في إطار الإحساس بالمسؤولية العامة تجاه البلاد والشعب وليس انطلاقاً من حسابات ضيقة لهذا الطرف أو ذاك.
قد يبدو الأمر صعباً في ظل المشهد السوري الحالي، وتحول القوى والأطراف السورية في الداخل إلى أدوات لأجندات الدول الكبرى المتورطة في الأزمة السورية، لكن تجارب التاريخ في العديد من دول العالم تؤكد أهمية دور المبادرات المحلية التي تطرح في مثل هذه الأزمات، إذ يبقى الحوار هو الحلّ الأمثل لا لتخطي مثل هذه الأزمات فحسب، بل في التأسيس لفهم سليم لقضية إعادة تأسيس دولة معاصرة، حقاً ما أحوج السوريين إلى حوار مختلف يخرجهم من أزمتهم، ويضع نهاية لمأساة السوريين التي استفحلت في كل الاتجاهات.