خاص – بيروت
لم تكن المصاعب التي رافقت موجات النزوح من سوريا إلى لبنان، سهلة. فالكثير من الأمور تبدّلَت منذ العام 2011 حتى اليوم، سيّما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي للاجئين السوريين وللمجتمع المضيف في لبنان. الفقر والبطالة والمرض والتسرّب المدرسيّ عند الأطفال… وغيرها الكثير من الأمور، رافقت وصول اللاجئين إلى المخيّمات التي تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة. ومع ذلك، آثَرَ الكثير من الشبّان العمل بجدٍّ للتغلّب على المصاعب، فكانت المثابرة هي السبيل لحصد نتائج إيجابية سجّلها الشبّان، فامتزجت يومياتهم بيوميات لبنانيين وثِقوا بهم، فانقلبت حياة الطرفين رأساً على عقب.
من عامل ديليفري إلى مدير متجر
في العام 2012 وَصَلَ ياسين الأحمد إلى لبنان آتياً من منطقة دير الزور السورية. استقرَّت عائلته المؤلّفة من والديه وشقيقين في منطقة البرج الشمالي القريبة من مدينة صُوْر في الجنوب اللبناني.
يقول الأحمد لـ”963+”: “البداية كانت صعبة جداً رغم أن والدي كان يعرف تلك المنطقة جيداً، إذ عمل فيها لنحو 5 سنوات قبل الحرب السورية، وعاد ليتزوّج ويعمل في بلده”.
والصعوبة بالنسبة إلى الأحمد تجلَّت في الاندماج بمجتمع تلك المنطقة اللبنانية. ويشير إلى أنه “ربما لو كنت أصغر من عمر الـ18 عاماً، لكان الوضع أسهل، إذ يلعب الأطفال بأي شيء بدون الالتفات لتغيير البيئة المحيطة، لكن بالنسبة لي، كنت شاباً أشعر بالنضج الكافي لأفهم ما الذي يجري حولي، ولديّ احتياجات يجب تلبيتها، وأوّلها ضرورة العمل والإحساس بالانتماء واكتساب الأصدقاء… وهذا كان صعباً عليّ في البداية”.
ولم يخسر والد هذا الشاب الكثير من الوقت قبل أن يجد عملاً في القطاع الزراعي، بمساعدة صديق سوريّ كان يعمل في أحد بساتين الحمضيات في البرج. وقد طلب من نجله العمل معه بعد نحو 3 أشهر.
ويقول الأحمد إن “أبي استطاع إقناع المسؤول عن البستان، بانضمامي إلى العمل، حتى وإن لم أتقاضَ أجراً. فكان هدف أبي هو جعلي أخرج من البيت كي لا أشعر بالملل وربما أدخل في مرحلة الكآبة، سيّما وأني عاطل عن العمل”.
ويضيف: “في نهاية الأسبوع الأول كان كل شيء روتينياً ومملاً، ليس لأني لا أفقه العمل بالزراعة، بل لأنّي لم أستوعب البيئة الجديدة ولا أتقاضى أي مبلغ يُشعرني بأنّي أعتمد على نفسي”.
ويتابع في سرد قصته لـ “963+”: “في نهاية الأسبوع الثاني أعطاني المسؤول عن البستان، ويُقال له في لبنان الوكيل، مبلغاً من المال على سبيل الإكرامية وليس كأجرة عمل. وسألني عمّا إذا كنت سعيداً في البرج أم لا، فأجبته بأنّني أحب الجيران الودودين، لكنّي لم أندمج معهم بعد. فأجرى اتصالاً هاتفياً بأحد أقربائه وسأله عمّا إذا كان قد وجد عاملَ توصيل طلبات في مطعمهم، فكانت الإجابة بالنفيّ، وكنت أنا العامل المنتَظَر، وساعدني الوكيل في أن أجد وظيفتي الأولى في المطعم، وعبرها وسّعتُ دائرة معارفي في المنطقة. فعمّال توصيل الطلبات أو الديليفري، يقصدون كل البيوت تقريباً. ومن المطعم تعرّفت على الكثير من شبّان المنطقة، ورحت أرتاد المقاهي معهم”.
استمر الأحمد في عمله كعامل توصيلاتٍ لدى المطعم لنحو عام. وكانت الأمور تسير على النحو المطلوب مادياً واجتماعياً، وفق ما يصف. فالأب يعيل عائلته من العمل الزراعي بمساعدة الابن الأكبر الذي بدأ يعتاد على البيئة المحيطة ويسعى للاندماج فيها.
لكن الاستقرار النسبي سرعان ما اهتزّ بقرار ترك العمل في المطعم “مع أن صاحبه لم يطردني بشكل مباشر، لكن الجوّ العام في العمل لم يعد مريحاً بسبب موقفي المعارض للرئيس السوري. إذ كثرت النقاشات السياسية في العمل، وكما هو معروف، النقاش في السياسة أمر بديهي في لبنان. وينتمي ويؤيّد معظم أهل البرج حيث أعيش، حزب الله وحركة أمل، وهما يؤيّدان النظام السوري فيما أنا أعارضه مع أنّي لا أفقه الكثير في السياسة، بل كل ما كنت أعرفه حينها، مشاهد وأخبار قتل الأطفال والمدنيين الذين خرجوا ليطالبوا بالإصلاحات والقصاص من كبار المسؤولين في البلاد”.
بقي الأحمد نحو شهرين بلا عمل. لا يريد اكتساب الخصوم أو الأعداء في تلك المنطقة بسبب مواقف سياسية، ويريد في الوقت نفسه أن يعمل. وفي أحد الأيام، كان الأحمد برفقة صديقٍ سوريّ، يقومان بنزهة على دراجة نارية إلى مدينة صور. وعلى أحد أطرافها، توقَّفَ الشابّان لشراء بعض الحاجيات من متجر كبير يرتاده صديقه كثيراً وعلى علاقة وطيدة بصاحبه اللبناني.
ويقول الشاب السوري اللاجئ: “خلال تبادل الحديث بين صديقي وصاحب المحل، سأله الأخير عمّا إذا كان يعرف شاباً يريد العمل في المتجر، فسارعت لعرض خدماتي، ووافقَ صاحب المتجر على الفور، استناداً إلى معرفة صديق مشترك. وبدأت العمل في اليوم التالي. فوجئت بعد نحو شهر بكثرة طلبات صاحب المطعم لي، بإجراء عمليات بيع للزبائن وفتح درج المال وإتمام عمليات البيع. وكشفَ لي لاحقاً أنه كان يختبر نزاهتي، ونجحت”.
تطوّرَت العلاقة بين الأحمد وصاحب المتجر. حتى أصبح الأحمد مدير المتجر الذي يبيع الخضار والفواكه والسمانة والأدوات المنزلية، “وصاحبه لم يعد يأتي كثيراً لأنه أدرك حسن إدارتي للمتجر”. ومع الوقت تمكّن الأحمد من توظيف شقيقيه وأحد أصدقائه “والجميع تحت إدارتي، وصاحب المتجر مسرور”، وفق ما يقول.
يبلغ الأحمد من العمر اليوم نحو 30 عاماً، ولديه شقيق وشقيقة ولدا في لبنان “كبرت العائلة وزادت المسؤوليات، وأنا أفكّر بالزواج وتأسيس عائلة خاصة بي. لكن الظروف الحالية لا تسمح بذلك، فالوضع الاقتصادي صعب في لبنان، ولا يبدو أننا سنعود قريباً إلى سوريا، فهناك متاهة أخرى لا تُعرَف نهايتها”.
مشرفة على حضانة للأطفال
ضاقت “ولاء” ذرعاً من البقاء في المنزل كل الوقت بانتظار إنهاء زوجها عمله في بستان حمضيات في إحدى قرى الجنوب اللبناني. هناك، الأيام تمرّ متشابهة إلى حدّ لا يُطاق. وما يزيد الوضع سوءاً هو “العيش في غرفة واحدة مع حمّام خارجها، بعد أن كنا نمتلك منزلاً متواضعاً في ريف دمشق، وزوجي يعمل سائق أجرة بالإضافة إلى عمله الزراعي. أي أن وضعنا المادي والنفسي كشخصين تزوّجا حديثاً، كان أكثر من ممتاز”.
في العام 2013 اضطرّت ولاء للخروج من سوريا مع زوجها إلى لبنان، “فالوضع لم يعد يُحتَمَل، ولا مجال للمجازفة والبقاء”، على حدّ تعبّيرها.
وفي لبنان تسارعت الأحداث بالنسبة للزوجين. “ولدت ابنتنا الأولى، وبعد نحو سنتين ولدت ابنتنا الثانية”. حينها لم تكن الأزمة الاقتصادية قد عصفت بلبنان “وكان ما يحصّله زوجي بالكاد يكفينا. وما كان يساعدنا في تقليص المصروف، هو زراعة ما نحتاجه من خضار. وكان الجيران اللبنانيون يساعدوننا إذا ما احتجنا إلى أي شيء، سيّما بسيارة للذهاب إلى المستشفى وأحياناً بمبالغ مالية يعتبرونها هدية للأولاد”. استمرّت الأوضاع على حالها نحو 3 سنوات. كبرت البنتان ولم تعد الغرفة تكفي العائلة.
وتضيف السيدة السورية لـ “963+”: “خرجنا من الغرفة الصغيرة واستأجرنا منزلاً صغيراً عبارة عن غرفتين ومطبخ وحمّام”. زاد الضغط الاقتصادي على العائلة “لكن من الناحية النفسية بات الوضع أفضل لأننا نعيش في منزل يراعي احتياجاتنا كعائلة”.
سنة واحدة فقط، ولم تعد العائلة تحتمل كلفة المعيشة التي ترتفع رويداً “فطلب زوجي من صاحب البستان أن يزيد مرتّبه الشهري وأن يبني له غرفتان إضافيّتان إلى جانب الغرفة القديمة، وأخبره بأنه في حال رفض ذلك، فسوف نضطر إلى إيجاد عمل آخر. وبالفعل، ساعدنا أحد الجيران اللبنانيين في إيجاد عمل آخر مع مسكن لائق. حينها رضخَ صاحب البستان وقام ببناء غرفتين ومطبخ وحمّام بشكل مرتّب ولائق”ـ تقول الزوجة.
ومع بدء انهيار سعر صرف الليرة في لبنان وانخفاض القدرة الشرائية للرواتب، أي في نهاية العام 2019، كان لا بد من تغيير نوعيّ في حياة الأسرة. فوجدت “ولاء” عملاً مع مدرّبين رياضيين وأخصائيين في التربية، كانوا قد افتتحوا أكاديمية لنشاطات الأطفال في الصيف، وابتدأ المشوار في هذا المجال “مع أنّي لم أكن أعرف شيئاً عن هذا المجال”.
تعلّمت ولاء الكثير عبر الانترنت، تقول: “كنت أمضي ساعات الليل في متابعة الفيديوهات عبر اليوتيوب لأعرف كيف تسير الأمور في هذا المجال، وأحاول ابتكار الألعاب والأنشطة للأطفال لأثبت قدرتي وسط الأخصائيين من خرّيجي الجامعات والمعاهد، وأنا بالكاد درست حتى المرحلة المتوسّطة في سوريا”.
ثلاث سنوات أمضتها “ولاء” في هذا المجال. زاد مرتّبها وأصبحت تساعد زوجها في مصروف البيت وادّخار القليل من المال. ولمزيد من تطوير الذات “بدأت أقوم ببعض الأشغال اليدوية المطلوبة لمناسبات أعياد الميلاد للأطفال، وأعرضها للبيع عبر الوتساب، وبات لديّ بعض الزبائن”.
بتوسيع نشاطاتها وإثبات قدرتها على تحمّل المصاعب، باتت “ولاء” قادرة على كسب ثقة الآخرين. وهذا ما دفع إحدى أخصائيات التربية للاستعانة بها للإشراف على الحضانة. في هذه المرحلة “بات لديّ مرتّب شهري جيّد قياساً للأوضاع الاقتصادية الحالية. وبتنا قادرين على تأمين احتياجاتنا واحتياجات الأولاد”.
ما تعيشه “ولاء” ليس وضعاً مثالياً “لكنه أفضل بكثير ممّا كنّا عليه سابقاً. لكن لكل ذلك ضريبة ندفعها من وقتنا وصحّتنا. فالتعب كبير والوقت ضيّق وبالكاد نجد مساحة من الوقت للجلسات العائلية في المساء. فنستيقظ فجراً، زوجي يخرج إلى البستان وأنا أبدأ بتحضير الأولاد للذهاب إلى المدرسة، وبعدها أجهّز نفسي للذهاب إلى الحضانة… كل شيء يسير ركض بركض كما يُقال بالعاميّة”.
وحكاية الأحمد وولاء هي عيّنة من تجارب صعبة ومريرة، لكنها تشكّل تحدياً للذات والمصاعب في آن واحد. تجارب هي جزء من نماذج تختصر حكايا شباب وشابات نزحوا تحت وطأة الحرب، ليؤسّسوا حياةً وسط مستقبل مجهول “لكن لا بد من مواجهته والاستمرار بالعيش”، على حدّ وصفهما.