خلفت الحرب في سوريا على مدار نحو عقدٍ ونصفٍ مضى، مئات آلاف الضحايا وملايين النازحين واللاجئين. وإن كان ضحايا الحرب، من القتلى والجرحى والمعذّبين يحظون باهتمام إعلامي وحقوقي كبير، فإن النازحين واللاجئين يعانون بصمت، فيما يُلقى عليهم اللوم في مشاكل المجتمعات التي هربوا إليها.
لم يتصوّر النازحون الأوائل أن المدة ستطول بهم إلى هذا الحدّ. بالنسبة لهم كانت رحلة الخروج من منازلهم ستنتهي خلال أيام أو أسابيع في أسوأ الأحوال، إلا أن هذه الأيام والأسابيع تحولت إلى أشهر وأعوام، ليتحوّلوا معها إلى باحثين عن سبل لتحسين شروط إقامتهم الدائمة بعدما كان بحثهم يقتصر في بدايته على توفير أي إقامة مؤقتة بصرف النظر عن شروطها. تحوّل السوريون في هذه الحرب من المدنية إلى بداوة مفككة انتقلوا فيها بين عشرات المنازل والمناطق بعدما كانوا لا يستريحون في النوم إلا على فراشهم في بيوتهم القديمة الذين كانوا يخططون لتجديدها، وخسروا، إلى جانب منازلهم وأعمالهم، دوائر علاقاتهم الإجتماعية والعائلية التي كانت تؤمن لهم ولو الحدّ الأدنى من الحماية والألفة.
أول ما تعرض له النازحون من استغلال كان في المدن المضيفة، إذ ارتفعت الإيجارات بشكل جنوني في فترة قصيرة قضت على جميع مدخراتهم بالتزامن مع فقدان الكثيرين منهم مصادر دخلهم، وذلك نتيجة زيادة الطلب على استئجار البيوت مع زيادة أعداد الوافدين. ورغم ذلك، بقي خيار النزوح في المدن الكبيرة، حيث تتوفر بشكل مستمر فرص عمل جديدة توفر دخلاً معقولاً للعوائل النازحة تساعدها في تأمين السكن، أفضل من غيرها من المناطق الريفية والمدن الصغيرة، التي اضطر النازحون فيها بعد فترة قصيرة للإنتقال إلى المخيمات التي أصبحت مكانهم الدائم وأصبحت معها المساعدات الإنسانية مصدر رزقهم الثابت. لم يعمل أي طرف من أطراف النزاع في سوريا على تأمين فرص عمل لسكان المخيمات ولا حتى إتاحة المجال أمامهم لخلق الفرص لأنفسهم، إنما تم تقييد المخيمات بوصفها أماكن إقامة مؤقتة وبما يمنع سكانها من الانتاج وتطوّير خبراته. وفي أمّس الحاجة هذه، عملت تلك الأطراف على استخدام المساعدات الإنسانية كوسيلة دعاية وترويج سياسي لنفسها. إذ أجبر كثير من النازحين على ترديد شعارات أو التصوير تحت يافطات لا يؤمنون بالضرورة، بهدف الحصول على مساعدة غذائية يسكتون بها جوع أطفالهم إلى حين.
أما النازحون الذين اختاروا اللجوء إلى خارج سوريا فقد واجهوا ظروفاً مشابهة في دول الجوار. تضاعفت الإيجارات في عينتاب وأنطاكيا وبيروت وطرابلس وأربيل ودهوك، ومن لم يتمكن من الاستئجار واستخراج إقامة قانونية في دول اللجوء انتقل للعيش في المخيمات التي وضعت بعض دول الجوار قيوداً صارمة فيها على تنقل السكان وعملهم خارج المخيم كحالة مخيم الزعتري في الأردن. اللاجئون خارج المخيمات لم يسلموا من الاستغلال كذلك، إذ عملوا غالباً في مهن غير مهنهم الأصلية في بلدان لا تعترف بشهاداتهم العلمية، وعملوا بأجور أقل بكثير من أجور السكان الأصليين، ولساعات أطول. إضافة إلى ذلك، عانى اللاجئون في دول الجوار من عنصرية شعبية وحكومية بدأت تزداد شيئاً فشيئاً مع ازدياد أعدادهم في تلك الدول، كمنعهم من التجوال في ساعات معينة في بعض أحياء بيروت، أو الإعتداءات المتكررة عليهم بالضرب مع تعاطف الشرطة مع المعتدين كما حصل في مرعش وعينتاب، عداك عن انشغال الإعلام والتيارات اليمينية في دول الجوار وأوروبا بتشويه صورة اللاجئين السوريين وتحميلهم جماعياً المسؤولية عن جرائم فردية قد يكون مرتكبوها سوريون، والمسؤولية عن جرائم “داعش” التي ارتكبها أولاً بحق السوريين قبل غيرهم، بل والمسؤولية عن تدهوّر أوضاعهم الاقتصادية رغم مليارات الدولارات التي مدّهم بها المجتمع الدولي مع تدفق اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
بقي النازحون واللاجئون السوريون عالقين في ذكرياتهم كمن عمل إيقافاً مؤقتاً لمسيرة الحياة بانتظار عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق. ورغم أن مرور عقد على هجرة أي فرد هي مدة كافية لاندماجه في المجتمع المضيف، إلا أنها ليست مجرد هجرة عادية. هي هجرة قسرية لم يرغب بها في الأصل معظم من اضطروا إليها في الحرب، ويبدو أن عدم الاندماج هو شكل من أشكال المقاومة هنا، إذ لا يزال الكثيرون يرفضون التخلي عن حلم العودة إلى مدنهم ومنازلهم ونمط حياتهم السابق، رغم أن الواقع يشي باستعصاء البلاد عليهم، وحتى إن انتهت الحرب فيها اليوم، فمن المستبعد أن تنتهي مأساتهم المزمنة معها، فالشروط الإقتصادية على الأقل لعودة كريمة قد لا تتحقق قبل أعوام من الآن، على أفضل تقدير.