شكّل التدخل الروسي في سوريا نموذجاً بارزاً للسياسة الخارجية الروسية، التي تسعى لتحقيق أهداف تتجاوز حدودها الوطنية. فمنذ انطلاقه عام 2015، كان التدخل الروسي يهدف إلى دعم نظام بشار الأسد، وتعزيز النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، وضمان المصالح الاقتصادية والعسكرية لموسكو. لكن الانهيار المفاجئ لنظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي مثل صدمة كبيرة وخسارة فادحة للاستراتيجية الروسية، ما أدى إلى زعزعة تلك الأهداف وخلق واقعاً جديداً تطغى عليه التناقضات.
ومع تداخل الدوافع السياسية والاقتصادية والاستراتيجية لموسكو، برزت تناقضات واضحة بينها وبين تركيا، الدولة الفاعلة الأخرى في الملف السوري. هذا التنافس انعكس بشكل مباشر على مستقبل سوريا، خاصة فيما يتعلق بمصير القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس، والاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمتها موسكو مع دمشق، وموقف أنقرة من هذا الحضور العسكري، وآفاق التعاون الاقتصادي بين البلدين.
التنافس الروسي-التركي: مد وجزر
تتراوح العلاقات الروسية-التركية بين التوافق والتصادم، خاصة في مناطق النفوذ مثل سوريا وليبيا وأذربيجان. هذه العلاقة المتوترة تستند إلى مزيج من المصالح المتقاطعة والصراعات الإقليمية، مما يجعلها عرضة لتغيرات حادة في أي لحظة.
يؤكد فؤاد عليكو، عضو المجلس الوطني الكردي في سوريا، أن هذا التنافس أدى إلى حرب بالوكالة بين البلدين في عدة مناطق. ويوضح لموقع “963+” أن التوتر بلغ ذروته في 2015 عندما أسقطت تركيا طائرة روسية على الحدود السورية، وكاد هذا الحادث أن يتطور إلى مواجهة عسكرية مباشرة. غير أن تدخل كازاخستان والعامل الاقتصادي لعبا دوراً مهماً في تهدئة الأوضاع، خاصة مع شعور تركيا بخذلان حلفائها في الناتو بعد سحبهم منظومة صواريخ باتريوت من أراضيها.
ويضيف عليكو أن دعم روسيا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 كان نقطة تحول كبيرة في العلاقات بين البلدين، حيث اتخذت موسكو موقفاً داعماً في الوقت الذي التزمت فيه دول الناتو الصمت. هذا الدعم عزز التقارب بين موسكو وأنقرة، وأدى إلى تجاوز جزء كبير من الخلافات السابقة.
شهدت العلاقات الاقتصادية بين البلدين تطوراً كبيراً خلال السنوات الأخيرة، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري من 30 مليار دولار إلى أكثر من 60 مليار دولار. كما تم إنشاء سلاسل توريد الغاز عبر البحر الأسود، ما عزز الاعتماد التركي على مصادر الطاقة الروسية.
بالإضافة إلى ذلك، قامت روسيا بإنشاء محطة نووية سلمية في تركيا، ووقعت صفقة بيع منظومة صواريخ S-400 لأنقرة. هذه الصفقة، غير المسبوقة لدولة عضو في حلف الناتو، أثارت جدلاً واسعاً وأدت إلى توتر بين تركيا والولايات المتحدة، حيث اعتُبرت خطوة تقرب أنقرة بشكل كبير من موسكو.
تصاعد التوتر بعد سقوط الأسد
تفاقمت التوترات بين البلدين مجدداً بعد دعم تركيا لهيئة تحرير الشام في السيطرة على دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد الموالي لروسيا. هذا الدعم التركي اعتبرته موسكو خرقاً للتفاهمات السابقة التي تم التوصل إليها في محادثات أستانا، و”طعنة في الظهر” وفقاً لتصريحات بعض المسؤولين الروس.
وفي ظل هذا التوتر، يتوقع فؤاد عليكو أن تسعى تركيا مجدداً لإرضاء روسيا عبر الضغط على المعارضة السورية لضمان عدم استهداف القواعد العسكرية الروسية في سوريا. كما يُتوقع أن تحاول أنقرة الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع موسكو، نظراً لتشابك المصالح بين البلدين.
ويرى المفكر الروسي ألكسندر دوغين، المعروف بقربه من دوائر صنع القرار في الكرملين، أن تركيا “وقعت في الفخ السوري” وضربت موسكو في الظهر عبر دعمها لجهات معارضة لروسيا في دمشق. هذه التصريحات تعكس عمق الاستياء الروسي من السياسات التركية الأخيرة في سوريا.
من جانبه، يوضح ديمتري بريجع، الخبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي، أن تعاون البلدين في سوريا ضرورة استراتيجية رغم تضارب المصالح. ويشير إلى أن “روسيا تسعى للحفاظ على نفوذها العسكري والسياسي في سوريا، في حين تدرك تركيا أن وجودها هناك ضروري لمنع قيام كيان كردي مستقل على حدودها”.
ويضيف بريجع لـ”963+” أن التفاهمات المستقبلية بين البلدين قد تشمل انسحاباً روسياً تدريجياً من بعض المناطق مقابل ضمانات أمنية لتركيا، أو القبول بحل وسط يسمح بإعادة دمج بعض الفصائل المسلحة ضمن المؤسسات الرسمية السورية تحت إشراف تركي-روسي مشترك.
وفي ظل هذه التعقيدات، تبقى إعادة رسم خريطة النفوذ في سوريا مرهونة بتوازنات جيوسياسية تشمل انخراط إيران وموقف واشنطن، إلى جانب احتمالات التقارب التركي-السوري. وبينما تراقب دمشق هذه التفاهمات بحذر، تسعى لتعزيز سيطرتها على الأراضي الخارجة عن نفوذها، لكنها تخشى أن يؤدي أي تفاهم روسي-تركي إلى فرض حلول لا تتماشى مع رؤيتها لاستعادة السيادة الكاملة على كامل التراب السوري.
وبحسب مراقبين، يبدو أن مستقبل سوريا سيظل مرتبطًا بشكل وثيق بمدى قدرة القوى الإقليمية والدولية على تجاوز خلافاتها، والتوصل إلى حلول تضمن استقرار البلاد وتحقيق مصالح جميع الأطراف المعنية.