دمشق
كشفت وثائق حصلت عليها وكالة الصحافة الفرنسية (فرانس برس)، عن نهب “الفرقة الرابعة” التابعة لقوات النظام السوري المخلوع التي يقودها ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، للاقتصاد السوري.
وقالت الوكالة في تقرير، إنه بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد، تعرض الكثير من مقار تلك الوحدة العسكرية السيئة السمعة التي أثارت الرعب في سوريا، للنهب. لكن مستندات متناثرة داخلها تروي تفاصيل عن حياة ترف وثروات تمتع بها “سيدي المعلم”، أي ماهر الأسد، مع المحظيين من معاونيه، فيما كان بعض جنوده يكافحون لتأمين قوت عائلاتهم الى حدّ التسوّل.
وتكشف الوثائق النقاب عن امبراطورية اقتصادية واسعة بناها ماهر الأسد وشبكته من المنتفعين، لم تترك مجالاً لم تتدخل فيه، من صنع “الكبتاغون” والاتجار به وصولاً إلى فرض أتاوات على المعابر الحدودية والحواجز.
اقرأ أيضاً: بين التهديد الإسرائيلي والتوتر الداخلي: هل تصبح جرمانا شرارة لتدخل إقليمي في سوريا؟
واتهمت حكومات غربية ماهر الأسد وأعوانه بتحويل سوريا إلى “دولة مخدرات” أغرقت الشرق الأوسط بأقراص “الكبتاغون”، وهي مادة منشطة غير قانونية كانت تهرّب خصوصاً الى الخليج.
لكن بعيدا عن التجارة التي تقدّر قيمتها بأكثر من 10 مليارات دولار، تُظهر المستندات التي تفحصتها “فرانس برس” كيف تغلغلت “الفرقة الرابعة” في الكثير من مفاصل البلد، ما جعلها أشبه بـ”مافيا” محظية داخل دولة مارقة.
استولت الفرقة الرابعة على منازل ومزارع، وصادرت بضائع شتى من مواد غذائية وسيارات وأجهزة إلكترونية لبيعها. ونهبت النحاس والمعادن من مناطق دمرتها سنوات الحرب الطويلة.
وفرضت كذلك أتاوات عند الحواجز ونقاط التفتيش، وجنت أموالاً من مرافقة صهاريج نفط وحماية مسارها، حتى تلك الآتية من مناطق سيطرت عليها فصائل مسلحة، واحتكرت أيضاً تجارة التبغ والمعادن.
في صلب هذه الشبكة الفاسدة، تربّع المقر الخاص لماهر الأسد فوق متاهة أنفاق محفورة في قلب جبل يعلو دمشق، يتسع بعضها لمرور شاحنة.
وقاد حارس تابع للسلطة السورية الجديدة فريق وكالة “فرانس برس” عبر الأنفاق، كما لو أنه دليل سياحي، وبعد النزول عبر سلم شديد الانحدار مؤلف من 160 درجة، توجد غرف موصدة ببوابات مصفحة، ويقول الحارس إنه أحصى تسع خزنات داخل إحدى الغرف.
اقرأ أيضاً: هل تعود روسيا كلاعب أساسي في سوريا بوساطة تركية؟
ويوضح كيف أن الخزنات تعرضت “للكسر” والنهب على أيدي أشخاص اقتحموا المكان في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، بعد ساعات قليلة على إطاحة فصائل معارضة بقيادة “هيئة تحرير الشام” بحكم عائلة الأسد التي قادت سوريا بقبضة حديد لأكثر من خمسة عقود.
وبحسب مصدر عراقي رفيع المستوى ومصدرين سوريين آخرين، لم يعلم ماهر الأسد (58 عاماً) حينها بعزم شقيقه الفرار إلى روسيا، وهرب بشكل منفصل في مروحية أقلته إلى العراق ومنها الى روسيا، عبر إيران على الأرجح.
في المجمع تحت الأرض، تبدو جلية الفوضى: خزنات مفتوحة وصناديق ساعات رولكس وكارتييه فارغة مرمية في كل ناحية، ولا يتضح ما إذا كانت الخزنات قد أُفرغت من الأموال قبل نهبها أم لا.
ويشير الحارس الى مكتب، يقول إنه “المكتب الأساسي” لماهر الأسد، مؤلف من “طابقين فوق الأرض وتحته أنفاق تضم غرفاً مغلقة لا يمكن فتحها”.
إلى جانب خزنة مهجورة داخل ممر، يمكن رؤية جهاز تغليف حراري جرى استخدامه على الأرجح لتغليف الأوراق النقدية.
ثروات مخفية
في أحد المستندات التي تفنّد بالتفصيل النفقات كافة، وعثر عليه فريق “فرانس برس” بين مئات الأوراق المبعثرة داخل مكتب أمن تابع للفرقة الرابعة، يظهر أنه كان هناك حتى الرابع من حزيران/ يونيو سيولة نقدية قدرها ثمانون مليون دولار، وثمانية ملايين يورو، و41 مليار ليرة سورية.
وتوثّق مئات المستندات احتفاظ ماهر الأسد ومكتب الأمن بمبالغ شبيهة في الفترة الممتدة بين العامين 2021 و2024.
ويقول الباحث لدى معهد كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط خضر خضور لـ”فرانس برس”: “هذا ليس إلا عينة صغيرة من الثروة التي جمعها ماهر وأعوانه عبر صفقاتهم التجارية المشبوهة”.
اقرأ أيضاً: تصعيد إسرائيلي في سوريا بعد مؤتمر الحوار الوطني.. تحركات مؤقتة أم خلق واقع جديد؟
ويقدّر أن تكون ثروتهم الحقيقية مخفية “في الخارج، على الأرجح في دول عربية وإفريقية”، مشيراً إلى أن “الفرقة الرابعة كانت بمثابة آلة لطباعة المال” في سوريا حيث يعيش أكثر من تسعين في المئة من السكان، وفق الأمم المتحدة، بدولارَين أو أكثر بقليل في اليوم الواحد.
ويقول العميد السابق في “الفرقة الرابعة” عمر شعبان الذي عقد تسوية مع الإدارة السورية الجديدة: “كانت الفرقة الرابعة دولة مستقلة، تمتلك كل شيء”.
وفي حين كان التعامل بالدولار الأميركي محظوراً في سوريا، أصبح العديد “من ضباط الأمن أصحاب ثروات، لديهم خزنات وأموال بالدولار حصرا”، على حد قوله.
وأقام أعوان ماهر المقربون في قصور فاخرة واعتادوا على شحن سيارات فارهة من الخارج، بينما كان البلد خارج أسوار قصورهم غارقاً في دوامة من الفقر والبؤس والخوف.
وبعد أسابيع من الإطاحة بحكم الأسد، كان سوريون ما زالوا يأتون الى فيلا ماهر الأسد المشيّدة على تلة في منطقة يعفور الراقية غربي العاصمة دمشق، ويفتشون في الغرف القريبة من إسطبلات اعتادت ابنته الفائزة بجوائز عدة، ركوب الخيل فيها.
لطالما كان ماهر الأسد شخصية غامضة تثير الخوف في سوريا. ويُنظر إليه على أنه الرجل الذي تولّى تنفيذ “الأعمال القذرة للنظام”.
ورغم اتهامه من منظمات حقوقية بإصدار أوامر لقتل متظاهرين عزل في سوريا منذ العام 2011، وربط اسمه باغتيالات، لكنه بقي بمثابة “الرجل الخفي”، وفق ما يقول مصدر مقرب من عائلة الأسد لـ”فرانس برس”.
وكانت الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد بمثابة القبضة الحديدية للنظام وارتبط اسمها بسلسلة طويلة من الفظائع.
حين يعدّد سكان في دمشق بسخط انتهاكات الفرقة الرابعة، يتردّد اسم آخر إلى جانب اسم ماهر الأسد، هو غسان بلال، مدير مكتب الأمن في “الفرقة الرابعة”.
على غرار رئيسه، كان بلال مولعاً بجمع السيارات الفارهة ويقيم في فيلا في يعفور، وتقول مصادر أمنية إنه غادر سوريا بعد سقوط النظام.
داخل مكتبه الفسيح في المقر الرئيسي لمكتب الأمن، تكشف معاينة فاتورة تلو الأخرى تفاصيل أسلوب حياته الباذخ. وبين تلك الفواتير واحدة متعلقة بصيانة سيارة الكاديلاك خاصته.
في صيف 2024، شحن بلال إلى دبي سيارتَين من طراز ليكسس ومرسيدس، بحسب وثيقة اطلعت عليها “فرانس برس”، وتظهر فواتير تسديد مبلغ بقيمة 29 ألف دولار كبدل جمارك وتأمين في دولة الإمارات عبر بطاقة ائتمان مسجّلة باسم شخص آخر.
وتظهر ورقة مكتوبة بخط اليد أنه كان يسدّد، بسبب خضوعه لعقوبات غربية على خلفية اتهامه بانتهاكات لحقوق الانسان، بدل اشتراك بمنصة “نتفليكس” للأفلام “بواسطة أحد الأصدقاء عبر بطاقة ائتمان في الخارج”.
وتتضمن قوائم أخرى نفقات، غالبيتها منزلية ولأولاده أو للمطبخ أو لشراء الوقود ومصاريف أملاك بينها الفيلا التي تعرضت لاحقا للنهب.
وبلغت قيمة تلك النفقات خلال عشرة أيام فقط من شهر آب/ أغسطس 55 ألف دولار.
في الشهر ذاته، كتب جندي من الفرقة الرابعة الى بلال متوسلا منحه “إعانة مالية (كونه) بوضع مادي سيء جدا”.
وقد صرف له بلال 500 ألف ليرة سورية كإعانة، أي ما يعادل حينها 33 دولاراً، فيما تظهر وثيقة أخرى ضبط أحد جنود الفرقة الرابعة يتسوّل في الشوارع أثناء دوامه.
وتمّ إحراق آلاف المستندات والملفات، على ما يبدو، لكن العديد من الوثائق السرية التي نجت تحمل في طياتها معلومات كثيرة.
من بين الأسماء البارزة المذكورة في بعض الوثائق والتي ساهم أصحابها في تمويل “الفرقة الرابعة” تبرز أسماء رجال أعمال مدرجين على لوائح العقوبات، على غرار خالد قدور ورئيف القوتلي، والأخوين قاطرجي المتهمين بجني مئات الملايين من الدولارات لصالح “الحرس الثوري” الإيراني والحوثيين في اليمن، عبر بيع النفط الإيراني إلى سوريا والصين.
وبحسب مصادر أمنية ومن قطاع الأعمال، تولى القوتلي إدارة نقاط تفتيش ومعابر، حيث “فُرضت أتاوات” على بضائع أو جرت مصادرتها.
ونفى قدّور الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات لدعمه ماهر الأسد مادياً في تهريب “الكبتاغون” والسجائر والهواتف، أن يكون له أي تعامل مع ماهر الأسد حين سعى لأن تُرفع العقوبات الأوروبية عنه عام 2018.
لكنّ قائمة إيرادات المكتب الأمني لعام 2020، أظهرت أنه وفّر نحو 6,5 ملايين دولار في ذاك العام لصالح المكتب، وتتضمن الوثيقة لائحة طويلة من المبالغ بالليرة السورية ومصادرها المتنوعة، وبينها الدخان الوطني، و”ترفيق”، أي حماية صهاريج النفط، وبيع المصادرات.
ويشير خضر خضور إلى أن مكتب الأمن كان يتولى معظم المعاملات المالية للفرقة الرابعة ويصدر بطاقات أمنية للأشخاص الذين تعامل معهم لتسهيل تحركاتهم.
في 2021، قال أحد تجار المخدرات الذي يحمل جوازي سفر لبنانيا وسوريا، لمحققين لبنانيين إنه استحوذ على بطاقة أمنية من الفرقة الرابعة، وإن مكتب الأمن وافق على حماية شحنة مخدرات لتاجر آخر مقابل مليونَي دولار، بحسب إفادة اطلعت عليها فرانس برس في حينه.
وتؤكد مصادر أمنية عدّة لفرانس برس أن بلال كان الشخص الأساس في تجارة الكبتاغون لدى الفرقة الرابعة، واتهمته وزارة الخزانة الأميركية بالفعل بأنه من اللاعبين الرئيسيين في تلك التجارة.
وزارت فرانس برس مصنعا لإنتاج الكبتاغون داخل فيلا استولت عليها الفرقة الرابعة في بلدة الديماس بريف دمشق قرب الحدود مع لبنان. وكانت غرفها مليئة بصناديق وبراميل من مواد الكافيين والإيثانول والباراسيتامول المستخدمة في صنع المخدر.
ويقول سكان محليون إنه لم يُسمح لهم أن يقتربوا من الفيلا، وكان يُمنع حتى على الرعاة التواجد في التلال المحيطة.
ويقول ضابط سابق أمضى جزءاً من خدمته في مكتب الأمن دون الكشف عن اسمه، إن المكتب كان يتمتع بـ”حصانة وكان ممنوعا على أي جهة أمنية التعرّض لأي عنصر إلّا بموافقة ماهر”، مضيفاً أنها “كانت مافيا، وكنت أعلم أنني أعمل لدى مافيا”.
وطارد جشع “الفرقة الرابعة” عائلات على مدى عقود، كما تُظهر رسالة كتبها عدنان الديب، وهو مشرف على مقبرة في مدينة حمص وسط البلاد.
عند حاجز مهجور لـ”الفرقة الرابعة” قرب دمشق، وبين مئات المستندات المتسخة والمرمية أرضاً، عثر فريق “فرانس برس” على رسالة من ديب يطلب فيها من الفرقة استعادة مزرعته.
ويروي الديب لـ”فرانس برس” كيف أن “الفرقة الرابعة” صادرت فيلا تملكها عائلته وقصوراً أخرى مجاورة قبل عشرة أعوام في قرية كفرعايا قرب حمص.
ورغم عدم السماح له بالاقتراب من ممتلكاته، كان على الديب دفع الضرائب المتوجبة على العقار الذي حولته “الفرقة الرابعة” بحسب قوله، إلى مكاتب، بينها أحد فروع مكتب الأمن، ومستودعات للمواد المصادرة، وغرفة أشبه بسجن.
خلال جولة في العقارات المصادرة، يقول أحد السكان لفرانس برس” “مكتب أمن الرابعة هنا كان خطاً أحمر لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه”.
ويروي كيف وجد بعد فرار العناصر كمية هائلة من البضائع المصادرة وبينها سيارات ودراجات نارية ومئات غالونات زيت القلي، ويضيف “تركوا الشعب يجوع فيما كان كل شيء متاحاً لهم هنا”.
وتُظهر وثيقة من أحد العقارات المصادرة، أن مواطنة بلغ عدد أفراد عائلتها 25 شخصاً، كان قسم منهم يقيم في خيمة وآخرون في “قنن للدواجن”، طلبت أكثر من مرة أن يخلي عناصر من الفرقة الرابعة منزلها لتقيم فيه مع عائلتها.
ولم تسيطر “الفرقة الرابعة” على أي قطاع في الاقتصاد السوري بقدر سيطرتها على سوق المعادن، ويقول العميد شعبان: “كان ممنوعاً أن يحرّك أحد الحديد من دون موافقة الرابعة، وكان التعامل بالنحاس مثلا حقاً حصريا لها”.
ويروي الضابط في مكتب الأمن الذي رفض الكشف عن اسمه، كيف توافد عناصر من الفرقة إلى احدى ضواحي دمشق بمجرد سيطرة القوات الحكومية عليها حينها، وبدأوا يسحبون أسلاك النحاس والحديد من المنازل المدمرة.
ويقول رئيس غرفة الصناعة السابق فارس الشهابي إن أحد مصانع المعادن الذي كان يديره أحد شركاء ماهر الأسد، كان يحتكر السوق، وأُجبر الجميع على الشراء منه حصراً.
ويضيف: “لم يعد بإمكان” العديد من المعامل العمل جراء هذا الضغط، موضحاً أن ماهر الأسد و”أصدقاءه” كانوا يسيطرون على حصة كبيرة من الاقتصاد السوري، لكن المستفيد الأكبر كان بشار الأسد.
ويؤكد الضابط السابق في مكتب الأمن أن حصة من الأرباح والمضبوطات كانت تذهب دائما الى القصر الرئاسي.
ورغم أنه لم يتبق من “الفرقة الرابعة” اليوم إلا مستودعات مهجورة ومقرات منهوبة، يحذر الخبير في الشأن السوري لارس هاوخ من مؤسسة “كونفلكت ميدييشن سولوشنز”، من أن إرثها قد يكون ساماً جداً.
ويقول “كانت الفرقة الرابعة لاعباً عسكرياً وجهازاً أمنياً وكياناً استخباراتياً وقوة اقتصادية وسياسية، ومؤسسة إجرامية عابرة للحدود”، مضيفاً أن “مؤسسة ذات تاريخ يمتد لعقود، وقدرات مالية هائلة، وعلاقات وثيقة مع النخب، لا يمكن ان تختفي ببساطة”.
ويشير إلى أنه “فيما فرّت القيادة العليا من البلد، فقد تراجعت نواتها الصلبة”، ومعظمهم من الموالين للحكم السابق، إلى المناطق الساحلية ذات الغالبية العلوية، الطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد.
ولا يستبعد هاوخ وجود أسلحة مخبأة في مخازن، تضاف إليها “مليارات الدولارات” التي كانت موضّبة في خزنات “الفرقة الرابعة”.
وينبّه من أن “كل ما يلزم لتمرد طويل الأمد متوافر، إذا فشلت عملية الانتقال في سوريا في أن تكون شاملة بالفعل وتحقق العدالة الانتقالية”.