“كنت أنتظرها بفارغ الصبر”. يقولها خالد محمود صالح، الستيني المقيم في حي قناة السويس بالقامشلي، مضيفاً: “أملنا في الانتخابات البلدية في شمال شرقي سوريا أن تكون البوابة إلى تمثيل الإرادة الشعبية، بآلية اقتراع شفافة تساهم في إشراك القواعد الشعبية في عملية اتخاذ القرار، خلافاً لما كان حاصلاً في العقود السابقة”.
لا يُلام صالح على حسرته هذه. يقول لـ”963+”: “ما شاركت يوماً في انتخابات نزيهة، إذ كانت نتائجها محسومة مسبقاً”، غامزاً من قناة الحكومات السورية المتعاقبة، ومعبّراً عن أمله في أن تجري الانتخابات فعلاً، بعد تأجيلها مرتين، وألا يكون هذا التأجيل مقدمة لإلغائها، فهي برأيه “خطوة مهمة في المسيرة نحو الخلاص من التهميش الذي عشناه طويلاً، وأن تحقق بكل شفافية ونزاهة تطلعاتنا نحن المواطنين”. ويتابع مبتسماً: أنا متفاءلٌ جداً”.
أجل شبه مسمّى
أهو محقٌّ في تفاؤله هذا؟ سؤال حقّ لا يراد به شكّ، إنما بعض الواقعية. فقد تأجلت الانتخابات في شمال شرقي سوريا إلى أجل “شبه” مسمّى: آب/أغسطس المقبل… من دون تحديد يوم في ذلك الشهر، وكأن المفوضية العليا للانتخابات في شمال شرقي سوريا “لا تعرف حقاً” إن كانت الانتخابات ستتم، أم تبقى مؤجلة إلى الأبد.
قيل الكثير عن أسباب التأجيل: تلبية مطالب الأحزاب والجهات المشاركة، بغية الوصول إلى فئات المجتمع، تأمين أجواء أكثر ديموقراطية، تناقض داخلي، ضغط خارجي… لكن الأهم، بالنسبة إلى مواطني شمال شرقي سوريا هو “أن تأتي متأخرة، خير من ألا تأتي أبداً”، كما يقول آلان محمد، وهو من القامشلي أيضاً.
يضيف لـ”963+”: “المطلوب أمران: أن تجري الانتخابات فعلياً، وأن تشكل – حين تجري – أرضية ديموقراطية جديدة وصلبة يرتكز عليها المواطنون للمشاركة في صنع السياسات التي تتناول حياتهم اليومية، وتحديداً السياسات الخدمية”، فالناس في شمال شرقي سوريا يعيشون محرومين من أقل الخدمات الضرورية.
فأي مآلات يرتقبها محمد من هذه الانتخابات؟ يجيب: “في السابق، إن صوّتَّ لمرشحك أم لم تصوّت له، فالأمر سيّان. كانت الانتخابات مرسومة، ومحسومة، وكانت الحكومة تنظّم انتخاباً يُفضي دائماً إلى فوز أحد المرشحين عن المكون المسيحي”.
“محور المشاركة”
اليوم، مصطلح “المشاركة” محوري في آمال الناس في المنطقة، وفي تطلعاتهم من الانتخابات المحلية، خصوصاً أن شريحة واسعة من مكتومي القيد في منطقة الجزيرة محرومة من حقوقها المدنية، ولم تشارك سابقاً في أي اقتراع، “وبالتالي لم تشارك في اتخاذ القرارات في منطقة تسكنها، وتساهم في إنمائها، اقتصادياً واجتماعياً”.
فهذا حسن أحمد من أهالي حي الهلالية بالقامشلي، لا يحمل تذكرة هوية سورية، يقول لـ “963+”: “كنت وعائلتي محرومين من حقوقنا المدنية، ومن الاستفادة من أي خدمات مجتمعية، أسوة بشركائنا في الوطن، ولهذا أريد أن تحصل هذه الانتخابات، وسأصوت وعائلتي فيها”، مشاركاً تفاؤله بنجاحها مع صالح، وآملاً أن تشارك فيها كل مكونات المجتمع في شمال وشرق سوريا بعيداً عن التجاذبات السياسية، وأن يضع الجميع خدمة الناس في رأس الأولويات.
ويوافقه سليمان أحمد في هذا الرأي، وهو صاحب متجر للمواد الغذائية في الحي الغربي بمدينة القامشلي، لافتاً إلى تراجع الخدمات في المنطقة قياساً بالفترات السابقة، “من انقطاع الكهرباء إلى تراجع عدد أيام تزويد الأحياء بالمياه وتراكم القمامة في الشوارع أياماً عدة”، مضيفاً لـ”963+”: “ليس مهماً من يستلم البلدية بعد الانتخابات، المهم أن نشارك في اختياره، وأن يبذل جهده لتحسين واقع الخدمات في المدينة، ورفع مستوى جودة الحياة للجميع، لمن صوّت له ولمن لم يصوّت”.
مشاركة واسعة
تنظّم العملية الانتخابية “المقبلة” بناءً على ميثاق “العقد الاجتماعي” الجديد، الذي صادقت عليه الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2023. وقد أحدث هذا العقد تغييرات في هيكلية البلديات في المناطق التي تديرها “الإدارة الذاتية”، طالت التراتبية الهيكلية فيها، المكونة من اتحاد البلديات ومجلس البلدية والرئاسة المشاركة.
وتقول روكن ملا إبراهيم، الرئيسة المشاركة للمفوضية العليا للانتخابات، لـ”963+”: “بموجب المادة السابعة من قانون الانتخاب، يحق لنحو 3 ملايين ناخب التصويت لاختيار رؤساء 134 بلدية موزعة على سبع مقاطعات، هي: الجزيرة، وعفرين والشهباء، ودير الزور، ومنبج، والفرات، والطبقة”. وبذلك، ستشمل الانتخابات المرتقبة كل مناطق “الإدارة الذاتية”، خلافاً لما جرى في انتخابات عامي 2015 و2017.
بحسب نصوص المادة 109 من هذا العقد الجديد، ينتخب الشعب المجالس البلدية ورؤسائها مرة كل عامين بالاقتراع المباشر، ما يؤمن مشاركة واسعة في الاقتراع.
معها.. ضدها
حسناً. الشعب في شمال شرقي سوريا يريد التغيير بالطريقة الديموقراطية، أي بالاقتراع لانتخاب الأصلح في السلطات المحلية. إلا أن هذا التغيير قد يصطدم فعلياً بعراقيل داخلية وخارجية.
داخلياً، ثمة أحزاب فاعلة على الساحة في شمال شرقي سوريا تعارض إجراء الانتخابات. تقول ميديا عكو، عضو المكتب السياسي في الحزب الديموقراطي التقدمي الكردي في سوريا، لـ”963+” إن البلديات مهمة لأنها المعنية بتلبية مطالب المواطنين اليومية على المستوى الخدمي، “ولتحقيق ذلك، لا بّد من تهيئة الظروف اللازمة لإنجاح الانتخابات، وأحوال البلاد اليوم غير ملائمة”. ويؤيدها في ذلك سليمان أوسو، رئيس المجلس الوطني الكردي، رافضاً المشاركة في أي انتخابات اليوم “لأسباب تتعلق بقضايا سياسية عالقة بيننا وبين ’الإدارة الذاتية’”، كما يقول لـ”963+”.
وخلافاً لعكو وأوسو، يؤكد حسين بدر، عضو اللجنة السياسية في حزب الوحدة الديموقراطي الكردي، المقرّب من “الإدارة الذاتية”، مشاركة حزبه في الانتخابات. ويقول لـ”963+”: “هذه الانتخابات ضرورة موضوعية، على عكس الحملات الدعائية التي تشوّه حقيقة هذا المشروع”.
والمثير في الأمر أن الحقوقي السوري حسين نعسو يرى أن تأجيل هذه الانتخابات أو تجميدها في الفترة المقبلة “خطوة صائبة في الاتجاه الصحيح”، كما يقول لـ”963+”، “وعلى الجهة الراعية للانتخابات أن تميز بين مشروعية الانتخابات ضمن إطار الحقوق من الناحية القانونية، والظروف السياسية السائدة، محلياً ودولياً”.
أنقرة وواشنطن
الخشية اليوم أن يستمر التناقض السياسي الداخلي، مترافقاً مع أسباب خارجية، فلا تجري الانتخابات. وما يعزز هذه الخشية، مثلاً، أن يقول رياض درار، الرئيس السابق لـمجلس سوريا الديموقراطية (مسد)، لــ”963+” إن قرار التأجيل أخذ في الحسبان الرفض الدولي والتهديدات التركية، مضيفاً: “استغلت تركيا الموقف الأميركي الرافض إجراء هذه الانتخابات لتهدد بشن عمل عسكري إن أصرت ’الإدارة الذاتية‘ على المضي قدماً بتنفيذ هذا الاستحقاق المهم”، فيما يؤكد الكاتب والباحث شورش درويش، لـ”963+” أن “الإدارة الذاتية” أخذت بنصيحة واشنطن تأجيل الانتخابات لقطع الطريق أمام أنقرة التي تهدد بعمل عسكري، مضيفاً: “القراءة السياسية التي أجرتها ’الإدارة الذاتية‘ أملت عليها ألا تتيح لأي طرف أن يتهمها بتعطيل القرار الأممي رقم 2254 بشأن الانتقال السياسي في سوريا، على الرغم من استحالة تطبيق هذا القرار”.
اليوم، يأمل المواطنون في شمال شرقي سوريا أن يكون أغسطس مفصلياً في مسيرة الديموقراطية في مناطقهم، وفي مشاركتهم في رسم السياسات التي تخص حياتهم اليومية، وهي فرصة حُرموا منها طويلاً. فهل تتم الانتخابات المحلية وسط هذه التجاذبات الداخلية والضغوط الخارجية؟