خاص ـ دمشق
“أحب شعري كثيراً، إنه كثيف طبيعي أسود ولامع حتى منتصف الظهر، كما بات ميزة خاصة بي بين فتيات جيلي. كان مركز التجميل الذي أرتاده الأكثر إعجاباً به، ما دفع العاملين فيه على إقناعي باستثماره من منطلق الربح وجني المال”، بهذه الكلمات افتتحت الشابة حنان علي (25 عاماً) من مدينة دمشق حديثها لموقع “963+”.
ومنذ سنوات تروج ظاهرة بين الفتيات والنساء من مختلف الأعمار والطبقات والفئات الاجتماعية، يجمعهن مشروع واحد كان طوق نجاة لهن ولأسرهن، خصوصاً أن غالبيتهن معيلات أو مسؤولات في تأمين مصدرٍ للرزق، لا سيما بعد فقدان رب الأسرة أو عدم كفاية الدخل الشهري، وبعد العجز عن مواكبة الارتفاعات الكبيرة في الأسعار بسبب تدني مستوى المعيشة وتراجع القدرة الشرائية في البلاد.
الحاجة أم الاختراع
لم يكن لحلول العام الدراسي الجديد حضوره المُعتاد لدى ربة المنزل سعاد عبدالله (40 عاماً) من مدينة التل بريف دمشق، بل مثّل عبئاً كبيراً عليها وعلى عائلتها المؤلفة من خمسة أفراد، وابنتها الكبرى في المرحلة الثانوية، بسبب غياب المُعيل الأساسي (الأب) الذي قُتل في الحرب. صار اهتمامها بشعر ابنتها مها (12 عاماً) أمراً مُجهداً، بانتظار أن ينمو حتى يحين وقت بيع خُصله لمركز تجميل قريب من منزلها.
تقول سعاد لـ”963+”: “الحرب حرمتني زوجي، وأنا أم لخمسة أطفال. أعمل جاهدة لتأمين لقمة العيش بالحلال فلا أحتاج أحداً، ولعل لجوئي إلى بيع شعر ابنتي أفضل من أن أمد يدي طالبة العون من الغرباء”.
وتضيف أن الاهتمام بالشعر “حالةٌ من نوعٍ خاص، تشمل استخدام العديد من أنواع الشامبوهات، والاهتمام اليومي بتنظيف الشعر وتسريحه، لما لذلك من دور في رفع سعره تحت مسمى جودة المُنتج وقبوله من الزبائن”، وهذا يشكل تحدياً يومياً كبيراً لها ولابنتها، وسط شعور مرير بالحسرة لما وصلت إليه الحال.
ما كان قص الشعر سهلاً بالنسبة إلى الطفلة مها، إنما كان نوعاً من تحمل المسؤولية في وقت مُبكر. وهذا جعل ذهابها إلى مركز التجميل هاجساً كبيراً يحمل مخاوف عدة وصفتها لـ”963+” بقولها: “ذهبت ووالدتي لقص شعري ومن ثم شراء مستلزمات المدرسة. بكيت كثيراً، لكنني لست نادمة، فمستقبلي الدراسي وعائلتي أهم من شعري”.
بالغرام.. وبحسب الحاجة
تتنوع طلبات عميلات مراكز التجميل: منهن من تريد خُصلاً، ومنهن من تطلب شعراً كاملاً أو أجزاء محددة منه، وهذا دفع الجامعية سارة محمد (22 عاماً) من مدينة طرطوس إلى التفكير جدياً في هذا الأمر، خصوصاً أنها غير مُضطرة لبيع شعرها كله، فالقليل منه يكفي ويسد الحاجة.
انتقلت سارة إلى دمشق لتدرس الصحافة والإعلام. هناك، وجدت في بيع خصل شعرها باباً جديداً لتأمين مصروفها الشهري، فما يصلها من والديها من مبالغ مالية لا يسد نصف احتياجاتها، لا سيما أنها مستقرة في السكن الجامعي، ما يفرض عليها العمل في أوقات محددة وعدم التأخّر.
تتذكر سارة وهي في سياق حديثها لـ”963+”، بداية تفكيرها في بيع شعرها. تقول: ” تابعت إحدى الصفحات في الفايسبوك الخاصة بالفتيات، فظهر لي إعلان ترويجي لأحد مراكز التجميل في منطقة المزرعة بدمشق. ساقني فضولي إليه، فوجدت في العروض المقدمة حافزاً للإقدام على هذا الأمر”.
تضيف: “تختلف الأسعار بحسب نوع الشعر وكثافته، ويُفضل أن يكون طبيعياً غير مصبوغ وغير معرض للحرارة العالية أو لمجففات الشعر. وفق هذه المعايير، يتم تحديد نوع الشعر ويصنف كنخب أول أو ثانٍ أو ثالث. تتم عملية الشراء بالغرام، ويتراوح سعر الغرام بين 8 إلى 10 آلاف ليرة سورية (ما يعادل 85 سنتاً أميركياً)”.
في حديث خاص لـ”963+”، تقول هند مارديني، وهي مديرة أحد مراكز التجميل، إن “الشعر يتم تحويله إلى وصلات وباروكات”، مبينةً أن سعر الخصلة الواحدة منه قد تصل إلى مليوني ليرة سورية (ما يعادل 125 دولاراً).
وتُضيف: “ما يُميز الشعر السوري أنه من أجود أنواع الشعر الطبيعي لجماله، كما أن الكثير من السيدات يقتنين الوصلات أو الباروكات لتكثيف شعرهن الأصلي أو لحمايته من حرارة المُجففات أو الصبغة، وبالتالي يستطعن تغيير شكلهن من دون أن يؤذين شعرهن الأصلي، إلى جانب استخدام الشعر كوصلات للعرائس في حفلات الزفاف”.
حاجة واستغلال
إنها مُغرياتٌ فتحت باب الاستغلال من جهات عدة، أبرزها مراكز التجميل التي وجدت في هذا الأمر مدخلاً لجذب الزبائن إليها وسط تراجع الإقبال على صبغ الشعر وقصه وتجفيفه، بعدما صارت أسعار هذه الخدمات خيالية.
في لقاء خاص مع “963+”، وصفت الباحثة الاجتماعية آية محمود، هذه الظاهرة بأنها “استغلال نتيجة الحاجة”، مؤكدةً أن “الوضع الاقتصادي المُزري فتح أبواباً لظواهر عديدة كانت بانتظار من يُعلنها، عدا عن اعتماد أساليب التسويق الحديثة على استثمار حاجة الأفراد إلى الخدمات، وهذا يُفسر الإقبال الكبير على بيع الشعر، الأمر الذي بات رائجاً، والذي لا يتعدى كونه رغبة شخصية فلا يمكن تحميل الطرف الآخر أي مسؤولية، لأن المسألة دخلت ضمن قواعد التجارة، أي العرض والطلب”.
وحمّلت محمود، وسائل التواصل الاجتماعي المسؤولية الكبرى في تفشي هذه الظاهرة لما تحمله من أساليب ترويج وعروض مُغرية بصيغ متنوعة، تلبي حاجات الفتيات والنساء، وهن الأكثر مُتابعةً لهذه الوسائل والصفحات.
وتقول سوسن بدور، رئيسة جمعية الحلاقة والتزيين في محافظة اللاذقية، لـ”963+” إن هذه الظاهرة قديمة وليست بجديدة، “لكنها توسعت أخيراً لتتحول إلى استثمار مُجزٍ بطريقة حضارية، ولو أنها محدودة”.
وعن إقبال مراكز التجميل على شراء الشعر، أكدت بدور أن “ميل بعض الصبايا والسيدات ميسورات الحال إلى طلب وصلات شعر مُستعارة بمواصفات مُعينة، مثل شعر سميك وطويل ولون مرغوب كالأسود أو البني أو الكستنائي أو الأشقر، كان دافعاً لفتيات أخريات لبيع شعرهن”. وبحسبها، “تتراوح أسعار ضفائر الشعر بين مليون و4 ملايين ليرة بحسب مواصفاتها (ما يُعادل 300 دولار أميركي)، فيما تحتاج الفتاة التي قصت شعرها قرابة العام ليعود إلى طوله، أي بين 80 و90 سم بشكل وسطي”.
عرض وطلب
إن الارتفاعات المتلاحقة في الأسعار طالت كل شيء، حتى الحلاقة، وهذا فرض على المواطن وعلى المسؤول مسايرة الحال وتبرير هذه الظواهر التي يرى فيها سعيد القطّان، رئيس جمعية الحلاقين بدمشق، نوعاً من المسايرة لواقع الحال، مؤكداً لـ”963+” أن “الظاهرة موجودة ونشطت هذا العام لعدم ملاءمة دخول الأسر السورية موجة الارتفاع المتزايدة، فقد وصلت تكلفة الحلاقة الرجالية في سوريا إلى 50 ألف ليرة سورية، (ما يعادل 4 دولارات أميركية)”، وهذا برره سعيد “بعدم شكوى المواطن من التسعيرة، من مبدأ العرض والطلب من الطرفين”.
وتأتي فكرة بيع الخصل والشعر كمبدأ مرادف، فالبيع يتم برضا البائع والشاري، “وهذا مردود إلى الحاجة فحسب”، بحسب القطان، مؤكداً عدم رفع أي شكوى بحق أي مركز تجميل، مذكراً بأن إيجار أقل مركز من هذه المراكز، في منطقة شعبية، يتراوح بين مليون و5 ملايين ليرة سورية (ما يعادل 300 دولار أميركي)، “ومن هنا نجد أن أي عملية بيع شعر تتم وفق حسابات حاجة البائع ومصلحة الشاري، عدا عن كون 98 في المئة من مراكز التجميل النسائية تابعة لمستثمرين”.
ويصف مراقبون أن الحاجة إلى تأمين أبسط مقومات الحياة في سوريا، باتت أمراً غاية في الصعوبة، خصوصاً بعد ارتفاع أسعار الغذاء والدواء بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، لتتحول البلاد من حالة الاكتفاء الذاتي إلى حالة الطلب الجشع.