عندما يتم الحديث عن الجهات الغربية الفاعلة في الوضع السوري، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الولايات المتحدة الأميركية. وبفضل وجودها الاستراتيجي الكبير وقواتها البرية، فقد أثبتت نفسها كأكبر لاعب عسكري غربي في سوريا. في المقابل، فإن أوروبا ليست اللاعب الذي قد يظنه المرء مهماً، وذلك على وجه التحديد لأن السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية مبتلاة بالعديد من المشاكل.
عند النظر إلى السياسة الأوروبية تجاه سوريا، خاصة منذ بداية الحرب الأهلية عام 2012، فمن الضروري فهم الشروط الأساسية للسياسة الخارجية والدفاعية الأوروبية. من حيث أعضائه، يُعد الاتحاد الأوروبي واحداً من أقوى الوحدات الاقتصادية والأفضل تسليحاً في العالم، لكن الخوف الحالي من توسّع روسيا وخسارة الولايات المتحدة كقوة وقائية بعد القدوم المحتمل للرئيس السابق دونالد ترامب، وهو الأمر الذي يظهر أن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى قدر كبير من الاستقلالية في مجال السياسة الخارجية والأمنية.
المشكلة الأساسية تكمن في أن الاتحاد الأوروبي لا يتمتع ببنية مؤسسية متماسكة تسمح له بامتلاك سياسة خارجية وأمنية مشتركة من الفكرة إلى التنفيذ، كما هي الحال بالنسبة للقوى الكبرى العالمية الأخرى. ففي الفترة الممتدة بين عامي 2009 و2010، ظهرت هيئة العمل الخارجي الأوروبي كوزارة شبه خارجية، ولكن عملية صنع القرار وتنفيذ السياسات فيها كانت مجزأة إلى حد كبير.
تقدّم “خدمة العمل الخارجي الأوروبي” تقاريرها إلى نائب رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن توسيع الاتحاد الأوروبي وسياسة الجوار وسياسة التنمية لا تزال من مسؤولية المفوضية. يتم تنفيذ السياسات التي تتبناها “خدمة العمل الخارجي الأوروبي” في المقام الأول من قبل الدول الأعضاء ووكالات الاتحاد الأوروبي والمنظمات غير الحكومية بالإضافة إلى الشركاء المحليين. وهنا أيضاً توجد انقسامات مختلفة في التنفيذ، مما يجعل التماسك، وإلى حد ما متابعة المسؤوليات، أمراً صعباً.
بالنظر إلى هذا الارتباك المؤسسي، من البديهي أن لا تكون الدول الأعضاء مجهزة بشكل أفضل لصنع السياسة الخارجية رغم أن لديها نقاط قوة وضعف ومصالح مختلفة. لذلك فإن أي مناقشة لموقف الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا يجب أن يأخذ في الاعتبار أيضاً حقيقة أن هناك قوى فاعلة في الاتحاد مختلفة في مصالحها ورؤيتها للأمور.
قبل عام 2011، دعم الاتحاد الأوروبي سوريا جزئياً كجزء من سياسة الجوار، ولكن في ربيع عام 2011 ومنذ بداية التحوّل من السيطرة على الاحتجاجات إلى الحرب الأهلية، اتخذ الاتحاد الأوروبي بشكل متزايد إجراءات ضد الحكومة السورية من خلال فرض العقوبات التي تتجدد سنوياً حتى يومنا هذا، وتطال بالدرجة الأولى مؤسسات الدولة السورية، وكذلك الأشخاص الموجودين في حكومة دمشق أو المتعاونين معها، فضلاً عن الشركات التي تُعتبر شركات ظل للرئيس بشار الأسد. الاستثناء الوحيد كان في سياق الإغاثة من زلزال شباط/فبراير عام 2023، حيث تم تعليق العقوبات جزئياً ولمدة ستة أشهر فقط فيما يتعلق بالسلع الإنسانية.
بالإضافة إلى ذلك، وبمبادرة من فرنسا، تم إنشاء تجمع “أصدقاء سوريا” اعتباراً من شباط/فبراير 2012 وبدأت عملية السلام في جنيف، مع استمرار استبعاد “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” تحت ضغط من تركيا. ومع ذلك، فإن الصيغة التي كان من المفترض أن تنشئ حكومة سورية مؤقتة ودستوراً جديداً، فقدت أهميتها مقارنة بصيغ التفاوض التي تهيمن عليها روسيا وتركيا وإيران، كما هو الحال في تلك القائمة في أستانا. بل على العكس من ذلك، مكنت عملية أستانا “هيئة تحرير الشام” من الانفتاح على قوات المعارضة السورية الأخرى المدعومة من تركيا اعتباراً من عام 2017 فصاعداً، وبالتالي إنشاء حكومة مؤقتة بدلاً من إزالة الشرعية عن المنظمات الإرهابية التي تسيطر على الميدان.
ويرجع هذا التغيير، في المقام الأول، إلى السياسة الأوروبية المناهضة للهجرة منذ عام 2015، علاوة إلى التهديد الواضح الذي يشكله تنظيم “داعش” الذي لم تتم مكافحته بفعالية على الأرض إلا من قبل القوات الكردية التي تم تجاهلها باستمرار.
الاتحاد الأوروبي وحيز سياسته الخارجية الهش أثبت عدم وجود ركيزتين أساسيتين لاستراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا، وهما الدعم الإنساني وتعزيز الجهات الفاعلة في المعارضة السورية. من ناحية أخرى، مع العدد الهائل من اللاجئين في أوروبا، وإلى جانب التحول إلى قوى اليمين في دول أوروبا، أصبح من الواضح أن تورط الاتحاد في سوريا من أجل مصلحته أمر مستحيل وأن الحرب في سوريا ستستمر. لقد أصبحت سوريا مشكلة سياسية داخلية، وأصبح صد اللاجئين الأولوية القصوى، فيما ارتبط ذلك أيضاً بالعلاقة المضطربة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وبينما أصبحت إدارة أردوغان سلطوية بشكل متزايد في الداخل بعدما اكتسبت قوة هائلة من خلال الانقلاب المدني عام 2016، فقد رسخت نفسها أيضاً من داعم للمعارضة السورية إلى قوة سيطرة مباشرة من خلال الغزوات العسكرية شمال سوريا. وكان الحكم الذاتي الكردي الذي كان يترسخ ويتوسع من خلال القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” بمثابة سكينٍ في خاصرته، لذا قام إردوغان بتقويض الحكم الكردي للحلول مكانه كلاعب أساسي شمال سوريا.
لقد أتقن الاتحاد الأوروبي كل هذه التطورات وأغلق نوافذ العمل من خلال إجراء سياسي رئيسي: اتفاق حول اللاجئين مع تركيا في عام 2016، نص على تلقي هذه الأخيرة للدعم المالي والسياسي السخي للحد من تدفق اللاجئين من أراضيها. كذلك الأمر، كانت الفصائل العسكرية التي تساعد أردوغان في سياسة السيطرة على شمالي سوريا، مثل “الجبهة الشامية” و “ألوية السلطان مراد”، مدعومة بسخاء من قبل دول الاتحاد الأوروبي بشكل فردي، طوال الحرب السورية، ومن قبل دول مثل هولندا، على سبيل المثال. وهي شاركت مع العديد من المجموعات الأخرى في السيطرة على شمال سوريا وقتل المدنيين، وحتى الأطفال، في منطقة الشيخ مقصود بمدينة حلب وفي عفرين شمال غرب البلاد والكثير غيرها.
إذا قرأت الأوراق السياسية الصادرة عن المؤسسات الاستشارية للاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة، ستجد أنه كان هناك تطبيع هائل مع الحكم في مناطق المعارضة السورية حول إدلب. منذ عام 2020، تم تصوير “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) بشكل متزايد على أنها جهة فاعلة سياسية طبيعية وعقلانية. في نيسان/أبريل 2021، على سبيل المثال، تمت دعوة زعيم “هيئة”، أبو محمد الجولاني، إلى مقابلة مع برنامج “فرونتلاين” حيث قال فيها أنه على الولايات المتحدة أن تكون أكثر قبولاً له. كما نشر معهد الجامعة الأوروبية دراسة تشير إلى أن “الهيئة” كانت تنفتح وتقترب من التيار السياسي والإسلامي السائد.
وعلى الرغم من كل الانتقادات الموجهة إلى “الهيئة”، التي ترتبط في العديد من النقاط بتنظيم “القاعدة” وحتى بعناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” السابقة، فقد تمكنت “الهيئة” في إدلب من تحقيق شرعية سياسية بحكم الأمر الواقع باعتبارها مخيماً ضخماً للاجئين. وحتى الآن، يظل باب الهوى فقط مفتوحاً كممر إنساني، مما يجعل الجيب الإسلامي أكثر شرعية من “الإدارة الذاتية” التي هزمت قواتها تنظيم “الدولة الإسلامية”!
بالتالي لا يوجد سبب للاعتقاد بأن هذه السياسة وهذا الواقع سوف يتغير. إنما، بدلاً من ذلك، كانت صفقة اللاجئين مع تركيا بمثابة سابقة للعديد من الاتفاقيات الثنائية الأخرى بين الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، وخاصة في ضوء الدور الاستثنائي الذي تمكنت تركيا من بنائه في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، والتي بلغت ذروتها في استرضاء تركيا للسويد وفنلندا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي ضوء عودة متوقعة لترامب، سيواجه الاتحاد الأوروبي أخطار أساسية جديدة مرتبطة بأمنه الذاتي، وبالتالي لن تعد السياسة في سوريا تشكل أولوية للاتحاد الأوروبي، باستثناء الحفاظ على العلاقة مع تركيا من أجل الحد قدر الإمكان من تدفق اللاجئين.