من دون منازع جدّي، يُعدّ المطبخ السوري من أغنى وأكثر مطابخ الشرق الأوسط تنوعاً. هو مزيج فريد من الحضارات والثقافات التي تعاقبت على بلاد الشام عبر التاريخ. من بلاد الرافدين إلى مصر القديمة، ومن الحضارة الرومانية إلى تلك العثمانية، كلّ حضارة تركت بصمتها على مكونات وأطباق هذا المطبخ العريق. دون أن ننسى أن العديد من الأبحاث الأركيولوجية أثبتت أن المكان الأول الذي هَجّن فيه الإنسان النباتات هو في الجزيرة السورية وبلاد الرافدين حيث وُجدت أقدم الآثار على زراعة القمح والشعير والكرسنّة والحمّص.
وتُعدّ الحبوب من أهم مكونات المطبخ السوري، حيث تُستخدم في تحضير العديد من الأطباق الرئيسية مثل الأرز، البرغل، الفريكة، والعدس. فيما تُستخدم الخضروات فيه بكثرة، ونذكر منها الباذنجان، الكوسا، البصل، الطماطم، الخيار، الفلفل، والبقدونس.
ولا تَستخدم الكثير من الشعوب الفاكهة بشكل كثيف في الطبخ، بل تفضّل استهلاكها بشكلها الأساسي، وذلك على عكس المطبخ السوري الذي يستخدم الفاكهة في تحضير العديد من الأطباق، مثل المربيات، الحلويات والمشروبات. تتعدد تلك الفاكهة، فيما من النوادر عدم استخدام واحدة منها فيه، إلا أن أبرزها هو العنب، التين، التمر، الرمّان، المشمش، والليمون.
تأثرٌ ببلاد الرافدين
أما اللحوم، فتُستخدم بكثرة في المطبخ السوري، وفي مختلف أشكالها. ليس الأمر محصوراً بلحم الضأن، البقر، الدجاج، والأسماك، بل يشمل أحياناً أنواعاً متعددة من الطيور والزواحف وغيرها. النظرة العميقة إلى “الشيف بوراك” التركي المشهور وطبخه، لا تجعل من أكله تركياً البتة، بل هو يمارس تقليداً مبهراً للمطبخ السوري المملوء باللحومات والتوابل. فيما هذه الأخيرة والأعشاب تُستخدم بكثرة كذلك، كالكزبرة، البقدونس، النعناع، الزعتر، الكمون، الفلفل الأسود، والبهارات العربية.
وتأثر المطبخ السوري بشكل كبير بمطبخ بلاد الرافدين، حيث نشأت الحضارات الأولى في العالم. ومن أشهر الأطباق التي تعود أصولها إلى بلاد الرافدين نذكر الكبة، الكباب، الثريد. كما كان لمطبخ مصر القديمة حيث نشأت الحضارة الفرعونية تأثيراته كذلك. ومن أشهر الأطباق التي تعود أصولها إلى مصر القديمة نذكر الفول المدمَس، والطعمية المعروفة أيضاً باسم الفلافل في بلاد الشام.
والاعتقاد السائد بأن كل مطبخ هو قائم بذاته ولم يتأثر بمحيطه، هو مجرد وهم. كل المطابخ، تماماً كالثقافات، هي مزيج مميّز من حضارات مجاورة وثقافات متعددة.
الحضارة الرومانية
وتأثر المطبخ السوري أيضاً بالحضارة الرومانية، حيث تمّ إدخال العديد من المكونات والأطباق الجديدة إلى بلاد الشام. ومن أشهر الأطباق التي تعود أصولها إلى الحضارة الرومانية الأطباق المرتكزة على القمح كالمعكرون. أما من الحضارة العثمانية، فتمّ إدخال العديد من المكونات والأطباق الجديدة إلى بلاد الشام، ومنها الكبة، والمحشي، واليخنة، دون أن ننسى الشاورما والبسطرما والقاورما.
وبعد هجرة الأرمن إلى سوريا هرباً من الاضطهادات منذ أواخر القرن التاسع عشر، حظيت مأكولاتهم باهتمام كبير من قبل السوريين، مما أدى إلى اندماجها مع المطبخ السوري وتكوين مزيج فريد من النكهات. تم إدخال العديد من المكونات الجديدة إلى هذا المطبخ من خلال المطبخ الأرمني، مثل الكركم، البصل الأخضر، الكزبرة، البقدونس، والنعناع، مما أضاف نكهات جديدة إلى الأطباق السورية. كما تم تبادل العديد من الوصفات بين الأرمن والسوريين، مما أدى إلى ظهور أطباق جديدة تجمع بين مكونات وثقافات كلا الشعبين. ومن أشهرها الكبة الأرمنية التي تتكوّن من لحم مفروم مع البرغل والبصل والتوابل، كما اللحم بعجين الذي هو من المأكولات التي اشتهرت في كلا المطبخين، وتتكون من لحم مفروم مع عجين ممزوج بالبهارات.
وتم تبادل تقنيات الطهي بين الأرمن والسوريين، مما أدى إلى تحسين مذاق الأطباق وتنوعها، ما أدّى لظهور العديد من الأطباق الجديدة التي تجمع بين مكونات وثقافات كلا الشعبين، نذكر منها طبق البوريك، والهريسة بنسختها الحديثة.
وللأكراد حصتهم كذلك في المطبخ السوري، من أشهرها الدولمة، وتتكون من أوراق العنب والكوسا والباذنجان والبصل ويتم حشو كل هذه الخضراوات بالأرز واللحم المفروم والتوابل، فيما تُعد الدولمة من الأطباق الرئيسية التي تُقدم في المناسبات والأعياد. أيضاً نرى طبق “السيخ” الكردي الذي يحتل مكاناً مميزاً في المطبخ السوري إلى جانب الكبة الكردية والشوربة الكردية، إلا أن “السيخ” يُظهر طريقة الشواء المميّزة التي انفرد بها المطبخ الكردي عن محيطه.
المطبخ الفارسي
وتأثر المطبخ السوري بالمطبخ الفارسي وبشكل خاص بالمكونات التي احتلت مكانة خاصة في المطبخ الشاميّ كالزعفران والفستق واللوز والليمون المجفف. يبقى أن نذكر أن مكونات وأطباق هذا المطبخ تختلف من منطقة إلى أخرى، وذلك حسب ثقافة وبيئة كل واحدة منها. وهذا الاختلاف والتنوع جعل المطبخ السوري من أكثر المطابخ العربية شعبية في العالم، حيث يُقدم في العديد من المطاعم في جميع أنحاء العالم.
هذا المطبخ الفريد هو رحلة حضارية عبر التاريخ والثقافات. هو مزيج فريد من الحضارات التي تعاقبت على بلاد الشام عبر التاريخ. تنوع غنيّ ومكونات غزيرة تُقدم تجربة مميزة لكلّ من يتذوّق أطباقه الشهية.