خاص – بيروت
أسهمَت الأزمة الاقتصادية المتواصلة في لبنان منذ العام 2019 في تقليص المعايير المعتمدة من قِبَل بعض العائلات لشراء السلع الغذائية، بسبب فقدان الرواتب والأجور قيمتها الشرائية. ولم يخرج قطاع اللحوم عن هذه الظاهرة، إذ أن الكثير من العائلات باتت تطلب أنواعاً أقل جودة لم تكن تطلبها قبل انهيار قيمة رواتبها، الأمر الذي شجّع الكثير من تجّار اللحوم وأصحاب الملاحم على توسيع دائرة الغشّ.
وعوض التشدّد بالمراقبة، ساهمت أزمة القطاع العام في إضعاف قدرة الوزارات المعنية بالمراقبة، فارتفعت نسبة الغشّ. واللافت أن كبار النافذين في هذا القطاع، يتلقّون الدعم والحماية من القوى السياسية، حتّى قبل الأزمة الاقتصادية.
ضبط اللحوم الفاسدة
لا يكاد يمرّ أسبوع بدون أن تضبط مصلحة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة، ملحمة أو مسلخاً غير مطابق للمواصفات الصحية. وبعض مراكز بيع اللحوم، تُضبَط وهي تبيع لحوماً فاسدة منتهية الصلاحية، غير آبهة بما قد تسبّبه من أمراض ومضاعفات صحية للمواطنين.
ويختار هؤلاء أصنافاً معيّنة “كالنقانق والسجق والهمبرغر لتمرير اللحم الفاسد، لأن هذه الأصناف تعتمد على البهارات وبعض الصباغ والملوّنات والمنكِّهات التي تُخفي حقيقة اللحم بداخلها”، وفق ما تؤكّده مصادر في نقابة القصّابين وتجّار المواشي في لبنان. ولذلك، تلفت المصادر انتباه المواطنين إلى “عدم استسهال طلب مثل تلك الأصناف من ملاحم أو مطاعم غير موثوقة، بل اللجوء إلى مصادر موثوقة”.
وتشير المصادر إلى أن “المدن الكبرى هي أكثر الأماكن عرضة للغش وبيع اللحوم غير المطابقة للمواصفات. ففي القرى، الناس تعرف بعضها ولا يوجد عدد كبير من اللحامين مقارنة بالمدن، وبالتالي فاحتمالات بيع لحوم فاسدة، أقل. لكن مع ذلك لا يخلو الأمر”.
وتوضح المصادر أن “النقابة حاولت منذ ما قبل الأزمة الاقتصادية، وبالتعاون مع وزارتيّ الصحة والاقتصاد، تقليص مستويات الغشّ. لكن في جميع الأحوال، فإن النقابة لا تملك الصلاحيات والعديد الكافي من المراقبين”.
علماً أن وزارة الصحة كانت قد أطلقت منذ سنوات، حملة واسعة لضبط الغش والفساد في أكثر من قطاع، ومنها قطاع اللحوم. وكان ذلك بين الأعوام 2014 و2016، ونجحت إلى حدّ كبير في ضبط السوق، لكنها لم توقِف الغش. وتقول المصادر أن “محاولات وزارة الصحة السابقة، والمحاولات المستمرة لوزارة الاقتصاد، كانت تصطدم دائماً بأصحاب الملاحم والمسالخ المدعومين سياسياً. وهذا الدعم يتوزّع على كل المناطق اللبنانية، وبالتالي، فإن مَن كانت تضبطه الوزارات، يخرج من القضية بسرعة. ومَن كان منغمساً بشكل لا يمكن إخفاؤه، يُصار إلى إلقاء اللوم على أحد الموظّفين، وطرده، أو في أقصى الاحتمالات، يُصار إلى إقفال المحل بالشمع الأحمر، ليُعاد فتحه بعد نحو شهر، بعد أن تبرُد حرارة القضية”.
عمليات ضبط الملاحم والمسالخ المخالِفة، يُسمَع بعضها في الإعلام وعلى شاشات التلفزة فيما لو كان الإقفال ضمن حملة إعلامية موسَّعة. أما إن كانت حدثاً عادياً ضمن جولات يومية لمصلحة الاقتصاد، فتمرّ مرور الكِرام ولا يُعرَف في اليوم التالي ما حصل للمحل وصاحبه.
وعلى سبيل المثال، أقفلت مصلحة حماية المستهلك، منذ نحو 3 أيام، مستودعاً لبيع اللحوم المبرّدة والمثلَّجة في جنوب لبنان، وتم ضبط نحو 250 كلغ من اللحوم الفاسدة، منها ما هو منتهي الصلاحية ومناه ما هو غير مستوفٍ لشروط التخزين، وأقفِلَ المستودع بالشمع الأحمر “لكن منذ 3 أيام، وحتى بعد أسبوعٍ أو أسبوعين، لن يعرف أحدٌ ما حلَّ بالمستودع وصاحبه، وقد يُعاد فتح المستودع تحت شعار التعهّد بعدم تكرار ما حصل”. تضيف المصادر.
عمليات الغشّ متعدّدة
إن كان بيع اللحوم الفاسدة هو أخطر أنواع الغشّ، إلاّ أن بيع اللحوم المثلّجة على أنها طازجة، هو نوع آخر، قد لا يكون بالخطورة نفسها على صحة المستهلكين، إلاّ أنه يبدّد أموالهم ويخدعهم، مع الاحتفاظ بهامش كبير للخطر الصحي، خصوصاً إذا ما أُكِلَت تلك اللحوم نيّئة.
وساعدت الفوضى التي رافقت الأزمة وإطلاق سياسة دعم الاستيراد التي كان هدفها تأمين الدولارات للمستوردين لتسهيل الاستيراد وضمان عدم شحّ السلع في السوق -ساعدت- في زيادة الغشّ. إذ عمَدَ الكثير من التجّار لإخفاء المواشي المستوردة والتلاعب بأعداد المباع منها في السوق، لمراكمة الأرباح. كما لجأ الكثير من مستوردي اللحوم المثلّجة إلى تكديسها في المخازن لبيعها لاحقاً بأسعار مرتفعة وتحقيق أرباح إضافية.
وفي السياق، أكّد أمين سر نقابة القصابين وتجار المواشي الحية، ماجد عيد، أن “نحو 90 بالمئة من نقاط بيع اللحوم تقوم بعمليات غشّ عبر تذويب اللحوم المجلّدة وخصوصاً الهندية وبيعها على أنها طازجة”.
وهنا، يشير علي سعد، وهو صاحب ملحمة وفرن، في الجنوب اللبناني، إلى أن “استعمال اللحوم في إعداد المأكولات، هو أحد الأجوه البارزة للغش. ففي الأفران، لا يعرف معظم الزبائن نوعية اللحوم المستعملة في اللحم بعجين أو مختلف أصناف المعجّنات التي تحتوي على اللحم المطبوخ. ويؤكد أن “المعيار هو لضمير وأخلاق كل صاحب مهنة، لأن الاعتماد فقط على الرقابة الرسمية، أمر غير مجدٍ”.
ويلفت النظر إلى أن “بعض عمليات الغش تتمّ بعلم الزبون الذي يكون مضطراً لغشّ اللحم بسبب الضائقة الاقتصادية، فيطلب لحماً بجودة أقل. ولذلك، يجب على صاحب المحل أن يكون رحيماً ويقلّل من نسبة الغش حتى لو طلب الزبون ذلك. فأصحاب المصالح يعلمون بأن الربح لن يقف عند زبون أو اثنين، وعليه، لا يجب وضع كل ما نسمية اللحم “المسيَّف” في طلبية واحدة أو اثنتين. ولا ضير إن رُمِيَ ما يجب رميه فعلاً”.
أسلوب آخر للغش، وهو بيع اللحم البرازيلي بسعر الأوروبي أو المحلّي (البلدي). وليس بالضرورة أن يحمل هذا الغشّ ضرراً صحياً، إلاّ أنه ينطوي على كسب غير مشروع، سيّما وأن اللحم الأوروبي أغلى من البرازيلي. وأن الكثير من الناس يطلبون اللحم البلدي بسبب جودته المرتفعة. وعملية الغش في هذا السياق، تنطوي على ربح ما لا يقل عن دولارين في كل كيلو. إذ أن الأوروبي أغلى ويصل حالياً إلى بين 12 و14 دولار.
من غير المتوقَّع ضبط السوق في لبنان. فمع استمرار الانهيار الاقتصادي وتراجع أداء الوزارات والإدارات العامة، تتّسع دائرة الغش، ويبقى المواطن هو الضحية، ويبقى قطاع اللحوم “بؤرة غشّ تحكمها مافيات محمية سياسياً”. وفق المصادر.