تسبب القصف الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق الأسبوع الماضي والذي أدى لمقتل مسؤول فيلق القدس في سوريا ولبنان التابع للحرس الثوري الإيراني محمد رضا زاهدي ونائبه محمد هادي حاجي رحيمي مع مجموعة من ضباطه عاليي المستوى، بصدمة سياسية كبيرة حتى لأقرب حلفاء إيران، لجهة الخرق الكبير الذي مثّلته الضربة للقانون الدولي المتعلق بتجنب استهداف البعثات “الدبلوماسية”، ذلك أن استهداف القنصلية الإيرانية يعتبر استهدافاً للأراضي الإيرانية، على ما يقوله القانون الدولي، وهو إذ يمثّل سابقة خطيرة تضع طهران أمام خيارات صعبة للرد على ما يقتضيه الرد من تغيّر في قواعد الاشتباك بين الطرفين.
ورغم التقارير الإعلامية حول مسؤولية إسرائيل عن قصف القنصلية الإيرانية، إلا أن اللافت هو عدم تبنّي الجيش الإسرائيلي لهذه العملية. فيما ذهبت الصحافة الإسرائيلية إلى حد إلقاء اللوم على الإدارة الأميركية في تحميلها المسؤولية عن الهجوم بعدما تحدثت تسريبات صحفية عن رسالة أميركية للحكومة الإيرانية تعلن فيها عدم علاقتها بالهجوم على القنصلية في دمشق وبأنها لم تمنحه الضوء الأخضر، كما أكدت التسريبات أن واشنطن لم تعلم بنوايا تل أبيب إلا قبل دقائق من انطلاق الهجوم.
يساهم هذا الارتباك في تعقيد الرد الإيراني المحتمل، فمن جهة، لا يبدو الرد بالمثل على إسرائيل خياراً متاحاً، إذ تعلم طهران، كما تل أبيب، أن قدراتها العسكرية لا تسمح لها حتى بالتفكير في الهجوم على أراضي الأخيرة باستخدام قواتها الرسمية، وغالباً لا تسمح لها حتى بالهجوم على السفارة والقنصليات الإسرائيلية في الإمارات وتركيا وأذربيجان نتيجة القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة وعلاقاتها الحساسة مع تلك الدول. كذلك، فإن أي تصعيد فعلي مع إسرائيل في هذه المرحلة ليس مضمون العواقب، إذ تظهر حكومة بنيامين نتنياهو عدم تسامح تام مع أي هجوم جديد ضدها، وتبدو مستعدة، بل متلهفة ومبادرة، للتصعيد العسكري مع أعدائها. لذا، وفي أسوأ الأحوال، لا تتوقع إسرائيل أن الرد الإيراني سيتجاوز استخدام حلفائها من الميليشيات في سوريا ولبنان وفلسطين في مهاجمة المناطق الحدودية مع إسرائيل، وهو ما لم تعد تخشاه تل أبيب بعد عملية 7 أكتوبر التي أفرغت جعبة طهران من أي أفكار هجومية أقوى، فيما منحت إسرائيل كارت بلانش للرد بعنف مخيف على أي هجوم جديد. كذلك، فإن الالتزام الصارم للنظام السوري وروسيا بإبقاء جبهة الجولان باردة، والحرب الشرسة في غزة، والتوعد بحرب مشابهة في لبنان، تشكل عوامل ردع قوية لحلفاء إيران حال التفكير بشن أي هجوم على الأراضي الإسرائيلية.
في إزاء هذا المشهد المعقّد، لا يبدو خيار استهداف القواعد الأميركية، كما جرت العادة في إيران، متاحاً في الوقت الحالي. إذ ساهم الانتقام الأميركي الأخير رداً على استهداف قاعدة البرج 22 في الأردن، في وضع حد لهجمات الميليشيات التابعة لإيران على مجمل قواعدها وتعريفها بتبعات اللجوء إلى هذه الهجمات التي تحمل عنوان “الانتقام من إسرائيل”. هذا فضلاً عن وجود ضغط تمارسه الحكومة العراقية على كل من إيران والميليشيات العراقية التابعة لها من أجل عدم خرق الهدنة غير المعلنة مع الولايات المتحدة والامتناع عن القيام بأي إجراء أو تأجيله على الأقل إلى ما بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى واشنطن منتصف الشهر الحالي. إلى ذلك، يشكل “التبرؤ” الأميركي من العملية الإسرائيلية حماية معنوية قوية لقواعدها من الهجمات الإيرانية، بمعنى أنه فيما لو أصرت طهران على تحميل واشنطن مسؤولية الهجوم على قنصليتها في دمشق، وتصرفت تبعاً لذلك عبر استهداف القواعد الأميركية مجدداً، فإنها تعلم أن الآراء داخل الإدارة الأميركية حينها ستبتعد أكثر عن سياسة “ضبط النفس” التي مارستها إلى حد كبير في ردها على استهداف البرج 22، نحو سياسة ردع أقوى تتمثل في شن ضربات أقسى قد تشل الميليشيات العراقية إلى حد كبير.
مع تعقد خيارات الرد أمام طهران، ومع حاجتها الماسة للرد التي عبّر عنها المسؤولون الإيرانيون على أكثر من مستوى، فإنها قد تلجأ إلى استهداف حلفاء الولايات المتحدة في سوريا والعراق، أي القوات الكردية في شمال شرقي سوريا وكردستان العراق، على غرار ما حدث في وقت سابق حين استهدفت صواريخ طهران البالستية منطقة سكنية بذريعة أنها “مركز للموساد” ويستخدم للتجسس وفق الرواية الرسمية الإيرانية. وعلى ما تفعله في شمال شرقي سوريا من استهداف ميليشياتها المستمر لقوات سوريا الديموقراطية (قسد). ولكن رغم أن هذا الخيار قد يبدو متاحاً أكثر من غيره، إلا أنه على إيران في هذه الحالة أيضاً توقع رد أميركي مشابه لطلعاتها الجوية المستمرة دفاعاً عن “قسد” إزاء الاعتداءات المتكررة عليها في الآونة الأخيرة.
واقعياً، حققت الضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية أهدافها بشكل كبير، إذ حيدت العميد محمد رضا زاهدي في ضربة قوية للحرس الثوري الإيراني بشكل عام ولفيلق القدس بشكل خاص لما كان يمتلكه من خبرة طويلة في إدارة الميليشيات الحليفة في سوريا ولبنان وتوسيع الدور الإيراني في محاربة المعارضة السورية والسيطرة على مدن رئيسية على الطريق البري الواصل بين العراق ولبنان عبر سوريا. كما أرسلت رسالة قوية إلى الدول العربية بأن الجيش الإسرائيلي ما زال قادراً على تحجيم الدور الإيراني في المنطقة رغم ما بدا من ضعف جهوزية يوم 7 أكتوبر، وأنه من الأفضل للعرب الاعتماد على القوة الغربية المتمثلة بإسرائيل بدل التفاهم مع إيران بعد تزايد الخشية من الانسحاب الأميركي.
قد يكون أفضل خيار أمام طهران، والذي لا يبدو أنها ستأخذ به، هو الرهان على الزمن لينسيها خسارتها المرة، وتجرع فكرة أن إسرائيل سجلت نقطة مجانية بالكامل تقريباً على حسابها. إذ مهما كان رد فعل طهران، فإنه سيصب في صالح تل أبيب مباشرة، ففتح جبهة في جنوب لبنان تعني غالباً خسارة نفوذها في لبنان، وأن الهجوم على سفاراتها في دول المنطقة يعني دفع تلك الدول للاصطفاف بشكل أوضح في جانب إسرائيل، كما أن معاودة الهجوم على القوات الأميركية يعني دفعها للتورط المباشر في النزاع وبالنتيجة تحجيم دور الميليشيات الإيرانية إلى أبعد حد ممكن، ويضاف إلى كل ذلك أن قتل عدة جنود ومدنيين أكراد وتسميته “انتقاماً” لن يحفظ لها ماء وجهها.