هناك جملة تتكرر وأقرأها باستمرار على واجهة المحلات أو خلفية المركبات العامة وبعض الخاصة في مصر، منسوبة إلى الشيخ محمد متولي الشعراوي يقول فيها “لا تخشَ تدابير بني البشر ضدّك فإن أقصى ما يفعلونه هو تنفيذ أمر الله”. والحقيقة هذه جملة واحدة من فيض الجمل التي قالها الشعراوي ويضعها المصريون كحكم ودليل حياة دون أي تفكير في المعنى الحقيقي لهذه الأقوال والنصائح، ففي الجملة الماضية ينسب الشعراوي كل الجرائم الفردية والجماعية إلى إرادة الله، فالمجرم يسيّره أمر الله وبالتالي لا يجوز الاعتراض على فعله لأن في ذلك اعتراض على أمر الله، ما يعني أيضاً أن المطالبة بمعاقبة صاحب كل فعل سيء أو جريمة ما، قام بها شخص ضدّ شخص آخر هي تجديف ضدّ إرادة الخالق التي تسيّر سلوكيات وتصرفات المخلوقات التي خلقها بما فيها البشر. قد تقرأ الجملة السابقة بهذا المستوى أولاً، وقد تقرأها بمستوى أقل تعقيداً كأن نقول أن الشيخ أو الإمام الشعراوي، بحسب التسمية العامة، يقصد أن يجعل مريديه يصبرون على البلوى ويهونوها على أنفسهم، لأن البلوى اختبار لصبرهم وطاعتهم لله الذي سوف يغيّر إرادته بعد حين ويعوض صبرهم خيراً ويعاقب السيء أو المجرم، فالله “يمهل ولا يهمل” وهو لا ينسى عباده الصابرين.
لكن تاريخ وسيرة الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي ظهر للمرة الأولى على التلفزيون المصري عام 1973 يقولان إنه من السذاجة تناول أحاديثه وتفسيراته ضمن البُعد البسيط لها، فالشيخ ظهر في مرحلة الرئيس الراحل أنور السادات الذي أطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن، والذي كان له اليد الأولى في تحول المجتمع المصري من مجتمع مديني ومدني إلى مجتمع ريفي متديّن ومحافظ وسلفي حتى في المدينتين الأكبر القاهرة والإسكندرية، خطوات السادات في التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي كان يلزمها حامل قادر على تخفيف وطأة هذه المتغيرات على الشعب عبر التخدير، وما من أداة أكثر قدرة على التخدير مثل الدين. وفي مجتمع منفتح على الفنون والثقافة والفكر مثل المجتمع المصري كما كان حتى نهاية ستينيات القرن الماضي، كان يلزم رجل دين شعبوي وشفوي وممثل عظيم مثل الشيخ الشعراوي الذي انتشرت فتاويه الشفوية بين المصريين والعرب، لاحقاً، بسرعة البرق، مستخدماً كل إمكاناته الجسدية والصوتية والذهنية لتمهيد المجتمع المصري والمجتمعات العربية لكل التحولات السياسية والاقتصادية القادمة، وفاتحاً المجتمع العربي في حواضره الكبرى على مصراعيه لاستقبال (الصحوة الإسلامية) القادمة من دول الخليج والتي غيّرت طبيعة المجتمعات في الحواضر المدينية العربية الكبرى إلى الأبد. تلك “الصحوة” أفرزت من ضمن ما أفرزته مجموعة من دعاة وأئمة رُصد لهم رأس مال ضخم جداً وقنوات إعلامية وصحف مهدت لهم كل السبل لإحكام قبضتهم على المجتمع وعلى الطبقات الوسطى فيه بحيث تم تجريف هذه المجتمعات من فعالية الطبقة الوسطى وقدرتها على الاحتجاج والتمرد والتغيير الفكري والتنويري الحضاري كما هو دور الطبقات الوسطى عادة في كل المجتمعات البشرية.
لكن الأهم هو التحالف الأضخم الذي حصل بين إفرازات الصحوة من الأئمة والدعاة وبين الأنظمة الاستبدادية العسكرية التي حكمت، وما زالت، الدول العربية الكبرى، فلم يعد خافياً، سوى للمصابين بعماء أيديولوجي طويل الأمد، أن كل هذا الخراب الذي أصاب مجتمعاتنا باسم الدين والتديّن والصحوة الدينية ليس سوى إحدى الطرق التي اعتمدتها أنظمة الاستبداد لكي تحكم سيطرتها الكاملة والنهائية على المجتمعات وتبقيها في حالة من العطالة والجهل والتخلف، تعيقها عن أي قدرة على الحراك الإيجابي أو التفكير السليم أو استخدام العقل لفهم ما يحدث وتحليله وتفكيكه والشغل على تغييره بدأب وعقلانية، وتشكيل واجهة معارضة للاستبداد، لديها برامج وخطط استراتيجية وتعتمد في أدبياتها خطاب وطني عقلاني مدني علمي تنويري لا توجد فيه ثغرات يمكن للشعبوية أن تخترقها وتطيح بكل آمال التغيير، واجهة معارضة سياسية وفكرية واقتصادية تكون بديلاً آمناً ومتوافراً للأنظمة في اللحظات الحاسمة. وهذا، للأسف، ما استطاعت الأنظمة القضاء عليه، بتحالفها مع مؤسسة دينية عربية براغماتية، عملت على تكديس المقدسات في المجتمعات العربية بحيث يصبح أي خطاب تنويري هو اختراق للمقدس ومساس به، ما يعرض صاحبه لغوغائية العامة وشعبويتها التي تتحول إلى مقصلة مجتمعية في أوقات كثيرة. ويكفي هنا أن نذكر ماذا حدث مع نصر حامد أبو زيد من العامة قبل المؤسسة الدينية وتواطؤ المؤسسة السياسية والأمنية العربية مع الدينية لإسكاته وإبعاده وتشويه صورته وفكره لدى العامة.
وبالعودة إلى جملة الشيخ الشعراوي في بداية المقال، فإنه لا يمكن لحصيف قراءتها إلا من باب الطلب من الجموع والعامة الصمت والسكوت والرضا بكل ما يحيق من أذى، والأذى هنا ليس الأذى الفردي كما قد يبدو، بل هو التعسف والاستبداد الذي تمارسه الأنظمة ضدّ الشعوب، هو الصمت عن التفقير والتهميش والتجهيل والإقصاء، هو الرضى بالحال مهما كان صعباً وقاسياً ولا يمت للعدالة بصلة، هو اعتبار تعسف الأنظمة وظلمها قضاء من رب العالمين ولا مجال لردّ قضاء الله سوى بالصمت والصبر والاستغفار والدعاء، هل من كلام مخدر ومثبط لعمل العقل أكثر من هذا؟ وهل هناك تواطؤ مع الظلم أكثر من هذا؟ وهل هناك جريمة ترتكب بحق الشعوب أكثر من جريمة تسليط عليها من يهون عليها الظلم ويعتبره أمر الله؟
غير أن المشكلة الأكبر هو أن هذا الكلام الذي قاله الشعراوي قبل عقود ما زال يتردد على ألسنة العامة في مصر وفي بلاد الشام وفي بلاد المغرب العربي، ويتردد مثله على الجانب المقابل لدى عامة الطوائف الأخرى في بلدان كالعراق ولبنان وجزء من سوريا، بعد عقد كامل من هزيمة الربيع العربي، الأمل الوحيد للتغيير خلال القرن الحالي، الهزيمة التي حصلت بسبب التحالف قديم الأجل بين المؤسستين السياسية والدينية والتي جرفت مجتمعاتنا من عقلانيتها ومدنيتها وعلمانيتها، وحافظت على خطاب ديني سلفي شعبوي شفوي يمكن لأي مهرج يتحدث في الدين أن يجر به هذه الشعوب من آذانها، فتبقى راضخة وصاغرة وتحقق للأنظمة ما تبغاه وتريده، وفي المقابل هنالك واجهة معارضة حائرة بين مدنيتها ونخبويتها وبين رضوخها للشعبوي خشية على مكاسبها فقط.
باختصار فإن خطورة خطاب الشعراوي وأمثاله من الدعاة القدامى والجدد لا تتوقف عند راهن زمنهم بل هي تمتد إلى الحاضر الحالي والأصعب أنها تتواجد بنفس قوتها الماضية، ولا تزال تتكرس لدى الطبقة الشعبية الأشد فقراً ولدى الطبقة المتوسطة التي فقدت مع هزيمة الربيع العربي كل ما كان يميّزها ويؤهلها لتكون حاملة التغيير المطلوب، ومازالت الأنظمة تسمح لذات الخطاب أن يتشبث بالمجتمع رغم أن مصدري (الصحوة الإسلامية) إلى مجتمعاتنا قد تخلوا عنها في مجتمعاتهم تماماً وبشكل نهائي، تاركين بلادنا تزداد في تخلف أفكارها وخطابها الشعبوي الداعشي المخيف.