خاص ـ عباس علي موسى/ الحسكة
يعود عباس بذاكرته للوراء ويستذكر تفاصيل جرت معه بدت علامات الاستغراب واضحة على محيّاه، يقول: “كان يوماً عادياً في بداية التسعينيات، حين كنت طفلاً، أتذكر أنني كنت أجلس أمام التلفزيون، متابعاً البرامج التلفزيونية “العربية” السورية. كانت اللغة العربية هي الرسمية والوحيدة التي كنت أسمعها في المدرسة وفي الإعلام. ولكن في تلك اللحظة، حينما سمعت الأكراد يغنون بالكردية على الشاشة العراقية، شعرت بصدمة. لم أكن أعرف أن هناك لغات أخرى يمكن أن تُبث على التلفزيون. هذه اللحظة أثارت فيّ سؤالًا: لماذا لم أسمع هذه اللغة في تلفزيوننا “الوطني”؟
وفي سوريا، تأسس أول مجمع للغة العربية في دمشق في بدايات القرن الماضي، وكان له دور كبير في تكريس اللغة العربية وتعريب المؤسسات والتعليم. ولكن، مع مرور الوقت، “بدأت أدرك أن هناك العديد من اللغات الأخرى التي يتحدث بها الناس في سوريا. في بلدتنا الصغيرة، كان الأطفال السريان يتعلمون الكردية، والأطفال الأكراد يتعلمون السريانية. ومع ذلك، لم يكن هناك مكان لهذه اللغات في التعليم الرسمي أو الإعلام”، يقول الرجل.
ومع مرور الوقت، “علمت أن هذا التركيز على الوحدة والمركزية اللغوية قد أدى إلى تهميش اللغات الأخرى. كانت اللغات الأخرى، مثل الكردية والسريانية، محصورة في الحياة الاجتماعية فقط، ولم يُسمح لها بأن تصبح جزءاً من الثقافة والأدب والنخبوية. كانت هذه اللغات تعتبر ريفية، وكانت طباعة الكتب باللغة الكردية تعتبر جريمة”.
اللغة “المسيحيّة”
في المدن ذات التنوّع الإثني القومي والديني، كانت اللغة أحد تمثّلات التنوّع، في الشارع في مدينة صغيرة كان الأطفال السريان يتعلّمون الكردية والأطفال الأكراد يتعلّمون السريانية، ويتعلّمون من التلفزيون حتى ما قبل المدرسة العربيّة، فكانت المُبادلة اللغوية أحد حلول التواصل، في حالة تردّ على الادعاء أنّ الناس يحتاجون لغة جامعة واحدة كالعربية في المثال السوري، في محاولة محو للغات الوطنية الأخرى للمواطنين السريان والكرد وغيرهم.
لكن بالفعل تركت الحكومة السورية فُسحة للغة السريانية، فكان الأطفال السريان يرتادون مدارس خاصّة تتبع الكنيسة، تُدرّس فيها المناهج الحكومية بشكل كامل، لكن يُضاف إليها اللغة السريانية، وحتى الصفّ الرابع الابتدائي فقط.
يقول جالينوس عيسى أحد الناشطين في دعم اللغة السريانية، وعضو باللجنة الإدارية لمؤسسة اللغة السريانية أولف تاو لموقع “963+”: إنّ النظام التدريسي للغة السريانية في المدارس الخاصة التي تتبع الكنيسة، كان لا يتعامل مع اللغة السريانية بشكل جاد، حيث يتم تعليم الأطفال القراءة والكتابة فقط، وكان يتم وضع هذه المادة في آخر البرنامج الصفّي، حيث عادة ما تكون الحصص الدراسية التي كانت المدارس السورية تتعامل معها كمواد ترفيهية مثل الرياضة والموسيقا والرسم، فكانت السريانية تُعامل مثلها، وفي الكثير من الأحيان لا يتم وضع درجات اللغة السريانية في الجلاء المدرسي.
كما أنّ التلاميذ كانوا يقصدون الكنيسة الملاصقة للمدرسة أيام الآحاد ليتعلّموا التراتيل والصلوات بالسريانية، كما يؤكّد عيسى، فهذا التعليم للغة كان ذا أفق محدودة، فلم يكن يترك له أن تجنح إلى ما فوق اعتبار اللغة السريانية لغة طقسيّة، أو لنقل أنها تعاملت معها كلغة “مسيحيّة”، حتى أنّ المجتمعات المحلية المتداخلة مع السريان، ألِفَتْ أن تقول عن اللغة السريانية لغة “مسيحية” وعن السريان “مسيحيين” في غلبة الطابع الديني على القومي، وهذا ما يُفسّر ملاحقة الأجهزة الأمنية للأحزاب القومية السريانية، فالسريانية ثوبٌ أوسع من أن يسمح نظامٌ ذو مركزيّة حادة بتداولها ثقافة وما فوق “طقسيّة”.
ترييف اللغة
كان واقع الحال في التفكير ذو البُعد الواحد للمركزيّة الحكومية، يُساهم في إبقاء اللغات الوطنية الأخرى في مستوى التواصل الاجتماعي فقط، دون أن تسمح لها بأن تجنحَ صوبَ اللغة المتعالية، والتي تمثّل الثقافة والأدب والنخبوية، فأرادت للغة الكردية أن تظلّ حبيسة صدور الناس، يتفاهمون بها فيما بينهم، ويشتمون ويتعاملون بها، دون أن يفكّروا بها أو يدوّنوا بها، أو لنقل في محاولة “ترييف اللغة”، حتى باتت معه طباعة الكتب الكردية “جُرماً يُحاسب عليه من يقوم به”.
كان هناك حربٌ ضروس على اللغات “الهامشيّة” ومحاولة بتر لأصابعها دوماً، ففي حين كان الرقيب يضربُ من يُحاول الخروج بها إلى النور، كانت الدولة تُمارس فنّ الإنكار، حيث ساهمت على مدى عقود في إنكار أي وجود فعلي للغة الكردية، ونجحت في الداخل السوري في إقناع أهالي سوريا في المحافظات الأبعد عن التجمّعات الكردية أن لا وجود في أقصى شمال شرقي البلاد سوى للبدو الذين يعيشون في الخيام، وكان هذا أشبه بذاكرة جمعية وصورة نمطية لا نعرف بالضبط كيف تشكّلت، لكنّها بالتأكيد نتاج تلك السياسات في الإنكار والمنع.
هذا الترييف مأذون بالأفول، تقول سميرة حج علي، الرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية، لـ”963+”: “اليوم لدينا عملية تعليمية متكاملة، ليس في المرحلة الأساسية والمتوسطة والثانوية فحسب، بل تجتاز ذلك إلى المرحلة الجامعية والدراسات العليا”.
صعود اللغات “الهامشيّة”
ساهمت ظروف الحراك المدني السوري، وحتى أقسى أطوارها التي تطوّرت فيه إلى نزاع مسلّح في بعض أوجهه وحرب أهلية في بعض أوجهها الأخرى، في صعود الهوامش بكلّ المناحي، وكانت اللغة إحداها، فكبرت الفُسحة التي حاولت فيها هذه اللغات الخروج إلى النور.
لكن ولأسباب متراكبة بعضها نفسي وبعضها ذات تأثّر بالحالة السياسيّة والاستقطاب السياسيّ، لم تنجح الكردية ولا السريانية في الاستفادة من الفُسحة التي سنحت لها في صعود لغاتها بالشكل المأمول، إلا أنّها بدأت بممارسة لغاتها في مستويات أخرى، منها التعليم والإعلام والشأن العام والثقافي.
فنجحت إحدى التجارب السوريّة، في مناطق شمال شرقي سوريا في الحالة الإدارية المغايرة في البلاد والتي هي “الإدارة الذاتية” في إعداد مناهج بالكردية والسريانية والعربية.
تقول حاج علي: “منذ العام 2015 بدأنا بإعداد المناهج، ولا نزال في عملية تطوير مستمرّة لها، وهذا ينطبق على المناهج باللغات الثلاث”.
وهذا ما فعلته لجنة إعداد المناهج ومؤسسة اللغة الكردية، ومؤسسة أولف تاو للغة السريانية، فقد نجحت في إعداد منهاج متكامل من مرحلة ما قبل المدرسة وحتى الصف الثاني الثانوي، تتضمن جميع المواد العلمية والأدبية والتاريخ والعلوم الاجتماعية والفلسفة، وإعداد معلّمين حتى من المكوّنات الكردية والعربية ليصبحوا أساتذة ومعلمين لهذه المناهج.
لكن ما الذي تحتاجه هذه اللغات للاستمرار في الصعود؟! إنّ هذه اللغات تحتاج إلى الاعتراف بها من قبل الشركاء السوريين، الذين قلّما يُناقشون موضوع اللغات الوطنية بصدر مشروح، أو أنّهم يتجنبون الحديث عنه، فتتفّق الأطراف المختلفة في اعتبار العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد، مع إدراج عبارات مواربة وخجولة حول اللغات الوطنية الأخرى.
وتحتاج هذه اللغات إلى الاعتراف الدستوري بها كلغات وطنية على الأقلّ في التجمّعات البشرية التي تتكلّم بها، ليس مجرّد الإشارة إليها، وإنما إلزام نفسها بتعزيز التدابير وتوفيرها للصعود بها، كما يؤكّد عيسى، ومن جهتها تشير حاج علي، على ضرورة الوصول إلى توافقات سياسية على مسألة الأمر الواقع بالنسبة للعملية التعليمية المستمرة منذ سنوات، بدءاً من الدراسة الابتدائية وحتى الجامعية، وفي المقلب الآخر والأهم، تحتاج النُخب الثقافية والناشطون إلى تعزيز هذه اللغات بين أهلها واعتبارها أحد أوجه حقوقهم الطبيعية.