القاهرة
تزامن قرار محكمة تونسية بالحكم على زعيم حركة النهضة “الذراع السياسي لإخوان تونس”، راشد الغنوشي، بالسجن لمدة ثلاث سنوات وكذلك صهره القيادي بحركة النهضة رفيق عبدالسلام مع ذكرى اغتيال المناضل التونسي شكري بلعيد، واتهام الجهاز السري لحركة النهضة بتنفيذ تلك الاغتيالات التي طالت أسماء بارزة في عالم السياسة ، والتي كان من أبرز ضحاياها محمد براهمي في شهر تموز/ يوليو من العام 2013 بجانب اغتيال شكري بلعيد خلال العام نفسه، والذي تحل ذكراه في السادس من شهر شباط/ فبراير من كل عام.
فرضيات عدة تستقر نحو تحرك الدولة التونسية إلى حل الحركة
تتهم هيئة الدفاع عن السياسي والمحامي شكري بلعيد، راشد الغنوشي بالوقوف وراء عملية الاغتيال من خلال التخطيط عبر الجهاز السري لحركة النهضة “تنظيم مسلح” فيما تولى جهاز تنظيم الشريعة “تنظيم محظور” تنفيذ عملية الاغتيال.
احتشدت عناصر وعوامل كثيرة تدفع نحو ترجيح تفكك بنية حركة النهضة في الداخل التونسي، على مستويات عدة. فضلاً عن فرضيات معتبرة تستقر نحو تحرك الدولة التونسية لإصدار قرار رسمي بحل الحركة. وذلك على خلفية الإدانة الرسمية التي أصدرتها المحكمة التونسية بحقها واتهامها بتهمة تلقيها تمويلات أجنبية، مما يضع الحركة صوب قرار الحل بحسب لائحة الأحزاب التونسية التي تحظر الجهات والمؤسسات السياسية في البلاد تلقي الأموال من الخارج.
بعيداً عن سيناريوهات قرار حل الحركة رسمياً من قبل الدولة خلال الأفق المنظور أو تأجيله ربما لوقت لاحق، أو تقديرات السلطة السياسية وتطورات الموقف من الناحية القانونية وتبعات التقاضي في ملفات مفتوحة تخص الحركة وتوقيف عدد من قادتها على ذمة تلك القضايا، تظل وضعية “النهضة” حرجة للغاية وتبقى في حكم الحل غير الرسمي.
الحركة فقدت شعبيتها في تونس
لم تعد تملك الحركة أي قبول شعبي وسط المواطنين، وذلك كون المواطن يربط ما بين المآلات التي حلت بالبلاد خلال السنوات الأخيرة، ومسار حركة النهضة ومسؤوليتها المباشرة عن الوضع المتردي سياسياً واقتصادياً، الأمر الذي يدفع المواطنين نحو دعم مسار قرارات الرئيس قيس سعيد الصادرة في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو، وكذاك قرار حل وتجميد البرلمان في العام 2021، والمراحل التي مضى من خلالها السعيد في تأسيس نظامه السياسي من دستور وانتخابات نيابية بعيداً عن هيمنة النهضة على مفاصل الدولة ومؤسساتها.
سقوط تجارب الإسلام السياسي دفع مشهد ترنح الحركة نحو الصدارة
تعدد الأزمات والانشقاقات داخل بنية النهضة تمر دون أن تحدث أثراً عميقاً في جدارية الحركة. لكن استمرارية تلك الأزمات سواء داخل الحركة في تونس وسقوط تجربة الإسلام السياسي في عدد من العواصم العربية، خاصة في مصر مع ثورة الثلاثين من شهر حزيران/ يونيو عام ٢٠١٣، دفع مشهد ترنح الحركة نحو الصدارة، خاصة مع فقدانها لأي ظهير شعبي محلي أو إقليمي. فضلاً عن تحرك الجهات التنفيذية والقضائية نحو توقيف عدد من قادة الحركة على خلفية التورط في قضايا تهدد سلامة الدولة، وتسفير المقاتلين لبؤر التوتر، خاصة في كل من سوريا وليبيا، وتوافد التمويلات الأجنبية، وغلق مقرات النهضة في عموم البلاد، الأمر الذي أمست معه الحركة في حكم التجميد والترقب للقرار الرسمي.
أكاديمي تونسي: قرار حل النهضة بشكل قانوني ورسمي قاب قوسين أو أدنى
يذهب الأكاديمي التونسي المتخصص في حركات الإسلام السياسي عبيد خليفي إلى أن قرار حل النهضة بشكل قانوني ورسمي “قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ”. وقال خلال حديثه لـ “963+”: “بغض النظر عن توقيت وقوع هذا القرار بشكل رسمي من الدولة ومؤسساتها، فإن الحركة بالأساس تلتزم حالياً بمنطق الكمون استعداداً للتموضع من جديد وفقاً لتطور الأمور سياسياً في البلاد”. وحسب خليفي “تعمل النهضة من خلال جبهات رديفة كجبهة الخلاص ورئيسها أحمد نجيب الشابي، وحزب العمل ورئيسه القيادي السابق بالنهضة عبد اللطيف المكي”.
ووفقاً لحديث المصدر ذاته، فإن “واقع النهضة حالياً يمثل أخطر مراحلها من ناحية التفكك وتهديد سلامة بنيتها”. بيد أن الواقع الاقتصادي والسياسي السائد في البلاد نتيجة السنوات الفائتة وتطور ديمومة الصراع من الناحية الدولية، ألقى بظلاله على الداخل التونسي في عين حركة النهضة للتحرك من جديد والانقضاض على الدولة والسلطة.
حركة النهضة تشهد أزمات شديدة التعقيد في بنيتها الداخلية
تبدو مسارات الأزمة الداخلية في حركة النهضة شديدة التعقيد، خاصة مع ترقب الجميع فرضية قدرة الحركة على تنظيم وعقد مؤتمرها العام الحادي عشر والذي كان مقرراً عقده خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عدم إمكانية النهضة عقدها مؤتمرها تعود أسبابه مرة على مستوى القيود التي تفرضها الدولة على الحركة، ومرة أخرى تمتد إلى نحو الخلاف العميق بين أجنحة الحركة على تنفيذ المؤتمر، خاصة وأن الخلاف هذه المرة يدور على نقطتين رئيسيتين إحداهما كيفية التعامل مع زعيم الحركة راشد الغنوشي باعتباره من الماضي، وكذلك اختيار اسم جديد للحركة والإعلان عن مضامين ومقولات جديدة تسمح لهم بالجلوس مع السلطة للتفاوض حول المرحلة القادمة، كل ما سبق يضع احتمالات عقد المؤتمر في حكم الأمر الصعب إن لم يكن مستحيلًا، نظراً لتمسك كل جناح بمقولاته وقدرة رجال الغنوشي من الهيمنة على الحركة ومقدراتها المالية.
بدا ذلك واضحاً حين تم تسريب تسجيل صوتي لنائب رئيس الحركة ورئيسها بالوكالة منذر الونيسي وهو يتهم الغنوشي ونجله معاذ بالسيطرة والتربح من أموال الحركة، ما دفع السلطات القضائية بإصدار قرار بتوقيفه في أيلول/ سبتمبر الماضي.
عكست التسريبات الصوتية تلك، عمق الصراعات التي تدب بين صفوف قيادات من الحركة لرئاسة الحزب في ما يعرف بمرحلة ما بعد الغنوشي. كما وأشارت التسريبات إلى عدد من الشخصيات المقربة من الغنوشي والمتهمة بتلقي أموال من الخارج واستخدامها لحسم هذه الصراعات الداخلية.
وبحسب التسجيل الصوتي المنسوب للونيسي والذي يوحي بسعي قيادات من الحركة إلى عقد تحالفات مع رجال أعمال لتوظيف ذلك خلال المحطات السياسية اللاحقة. جاء ذلك في وقت حاول فيه منذر الونيسي أن يستبق الجميع وينفي جملة ما ورد في هذه التسريبات، مؤكداً على أن “كل ذلك محض محاولة يائسة للإساءة إلى الحركة” على حد تعبيره. غير أن السلطات التونسية اتخذت قرارها بفتح تحقيق قضائي للكشف عن ملابسات هذا التسجيل الصوتي كما أنها أذنت بإجراء الاختبارات اللازمة للتأكد من صحته.
بالمقابل وفي سياق متصل كان من اللافت اختيار شخصية العجمي الوريمي ليجلس في مقعد منذر الونيسي خلال المرحلة التالية، وهو الشخص الذي يقدم نفسه وبانفتاح على كافة التيارات السياسية، وبإمكانه تأدية الدور التفاوضي مع الدولة متى ما أتيح ذلك.
فلم يكن مستغرباً أن يأتي الحديث عن طرح اسم جديد للحركة خلال المؤتمر القادم (لم يحدد بعد) على لسان الوريمي، ليأتي النفي على لسان صهر الغنوشي وصندوقه الأسود رفيق عبدالسلام، واعتبار أن الحديث عن الاسم الجديد ما هو إلا أمر قديم طرح سابقاً، ولا يعبر بأي صورة عن تطورات الحركة وما تعانيه من صعوبات حالية.
كاتب تونسي: اختيار الوريمي هدفه ترتيب البيت الداخلي لحركة النهضة
من جانبه يلفت الكاتب التونسي مراد علاله، إلى أن اختيار شخص العجمي الوريمي لمنصب الأمين العام “لا يمكن فهمه سوى من خلال مهمة ترتيب البيت من الداخل، وتجنيب الحركة الصدام أكثر مما هو حاصل مع السلطة خاصة بعد تسريبات الونيسي وما أحدثته من أثر متفاقم بين المواطنين”.
ويتابع علاله في حديثه لـ”963+” بتأكيده على أن “اختيار الوريمي ارتبط بعدة عوامل أخرى، منها كون الأخير لم يعرف عنه ارتباطه بحركة الأموال في النهضة، ولم يكن يوماً معنيا باستثمارات ومشاريع النهضة ولا حتى مسارات تمويل الحركة”.
ويشير الكاتب التونسي في إطار تصريحاته إلى أن ما يميز العجمي الوريمي داخل حركة النهضة كونه لم يشق “عصا الطاعة” لقيادة الحركة حول راشد الغنوشي. ولم يوقع عريضة الاعتراض مع الغاضبين ولم يتفاوض معهم بشأن الضغط أو حتى المشاركة في قرار الخروج من النهضة.
تقريباً وبحسب علاله، يبدو الوريمي حالياً الوحيد خارج السجن من الحلقة التي تمثل الرابط العضوي بين أجيال التنظيم المتلاحقة، في وقت يحتفظ فيه بعلاقة جيدة مع راشد الغنوشي من جهة وبخصومه والأجيال الجديدة من الشباب من جهة أخرى، كما أنه ليس في حالة تصادم مع النقابيين واليساريين ولا يتردد في اللقاء معهم والجلوس إليهم.
على أية حال، من الصعوبة بمكان النظر إلى أفق حركة النهضة التي تجذرت في الداخل التونسي مرة كحركة معارضة للأنظمة السياسية ما قبل العام 2011 كواحدة من حركات الإسلام السياسي، ومرة أخرى كجزء من منظومة الحكم الرئيسية خلال العقد الفائت بعيداً عن كونها تواجه أخطر مراحلها بشكل عام، الأمر الذي يلزم التدقيق فيما جاء على لسان الأمين العام العجمي الوريمي حين قال: “إن الحزب يمضي في اتجاه مراجعات تاريخية تشمل التسمية ومضامين الطرح والموقع السياسي وأسلوب العمل في الساحة السياسية وهي المراجعات التي تم توثيقها في أوراق عمل وأنها ستجد طريقها في نهاية المطاف للطرح على عامة الساحة السياسية”.
تلك الكلمات تعبر بيقين تام عن عمق الأزمة التي ضربت بنية الحركة عبر أخطاء متتالية، ومعقدة ومركبة مما يضعها أمام النهاية الحتمية التي تدفع نحو قرار الحل الرسمي، وتجميد الحركة من قبل الدولة، وعلى الجهة الأخرى العمل على صياغة ظهورها وتموضعها في الداخل عبر مضامين جديدة وطرح آخر.