بيروت
تقف تركيا على أعتاب دورة انتخابية جديدة، حيث من المقرر إجراء الانتخابات البلدية في 31 آذار/مارس الحالي. يتوجه الناخبون في جميع أنحاء البلاد إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رؤساء البلديات ورؤساء المناطق والمجالس المحلية، في منافسة يُنظر إليها على أنها استفتاء على حكم الرئيس أردوغان المستمر منذ أكثر من عقدين.
لا تعني هذه الانتخابات لمجمل السوريين كثيراً، ما عدا هؤلاء المجنسون الذين حصلوا على الهوية التركية في السنوات الماضية. أما اللاجئون، وهم الأكثرية المعنية بمجريات الحياة السياسية في تركيا والمقدرة أعدادهم بحوالي 3.35 مليون شخص بحسب بيانات وزارة الداخلية التركية لعام 2023، فيرون الخطاب السياسي العام الدائر حالياً بعين إيجابية، إذ تراجع موضوع اللجوء وتنظيمه في الإعلام المحلي والخطابات الانتخابية بالمقارنة مع الماضي القريب.
61 مليون تركي يشاركون في انتخابات “مميّزة”
يؤكد الخبير التركي في مجال الانتخابات بوراك تشيتين في حديث لموقع “+963″، أن الانتخابات المحلية الحالية “مميّزة هذه المرة”. لا يعيد الأسباب إلى وجود أحزاب جديدة تتنافس للفوز بالمقاعد أو إلى التحالفات الحزبية القائمة، إنما إلى “طغيان الأبعاد الاقتصادية على شؤون الانتخابات وتراجع تأثير قضية اللاجئين السوريين والأفغان وغيرهم على خيارات الناخبين”.
تعيش تركيا في أزمة اقتصادية صعبة، مع تراجع قيمة العملة المحلية وزيادة التضخم بنسبة 67 في المئة بالمقارنة مع العام الماضي، فيما رفع البنك المركزي التركي في 21 آذار/ مارس الحالي معدل سعر الفائدة 500 نقطة، الأمر الذي سيؤدي “إلى استمرار الأزمة الاقتصادية في تركيا”، بحسب الخبراء.
يشارك حوالي 61 مليون تركي في الانتخابات المحلية، بينهم مليون شخص يصوتون للمرة الأولى، فيما تشهد الانتخابات تنافساً حاداً بين حزب “العدالة والتنمية” الحاكم وعشرات الأحزاب المعارضة، وبخاصة في العاصمة أنقرة، وفي مدينة اسطنبول التي تضم حوالي 18 في المئة من مجمل الناخبين.
وفيما يتوقع تشيتين أن الانتخابات لن تأتي بأي تغييرات جديدة، وستبقي على سيطرة المعارضة على المدن الكبرى، يرى أن “الأزمة الاقتصادية التي تواجه الأتراك تلعب دوراً في نفور الكثير من الناخبين من الحزب الحاكم، وخاصة في المدن الحضرية حيث تبرز أثار التراجع الاقتصادي أكثر من الأرياف”.
أما قضية ترحيل اللاجئين إلى سوريا، فلا ترتبط بنتائج الانتخابات البلدية كثيراً، على اعتبار أن موضوع الترحيل نابع من سياسة حكومية شاملة، وذلك بغض النظر عن الهوية السياسية والحزبية لحكّام المدن والبلديات.
ويتنافس مرشحا “العدالة والتنمية” مراد كوروم (اسطنبول) وتورغوت ألتينوك (أنقرة) مع رؤساء بلدية المدينتين المنتميان إلى حزب “الشعب الجمهوري” أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش اللذان فازا في الانتخابات السابقة عام 2019. فيما تشير معظم استطلاعات الرأي “إلى إمكانية فوز مرشحا حزب الشعب الجمهوري وبخاصة في العاصمة أنقرة”، بحسب تشيتين.
وكانت أظهرت أرقام استطلاع شركة “أسال للأبحاث”، في شهر شباط/فبراير الماضي، تقدم إمام أوغلو على مرشح الحزب الحاكم في إسطنبول، تماماً كما أظهر استطلاع “مؤسسة متروبول للدراسات”، في بداية شهر آذار/مارس الحالي تقدّم رئيس بلدية أنقرة على مرشح الحزب الحاكم، وبفارق حوالي 10 في المئة من أصوات سكان المدينة، وهو فارق كبير ومريح للطرف المعارض للحزب الحاكم في العاصمة.
قضية اللاجئين “لم تعد أولوية”
بدوره، يرى الباحث السياسي السوري – التركي طارق البيطار في حديث لموقع “+963” أنه على النقيض من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، “من المثير للدهشة أن موضوع اللاجئين حظي باهتمام أقل سواءً في وسائل الإعلام أو بين الجمهور”. ومع ذلك، يؤكد البيطار أنه “ليس من الحكمة التقليل من أهمية قضية اللاجئين، خاصة في ضوء اللوم غير الرسمي الموجّه من قبل شرائح من الجمهور نحو اللاجئين بسبب الخسارة الأخيرة التي مني بها الحزب الحاكم وحلفاؤه في الانتخابات البلدية السابقة”.
ففي العام 2019، خرجت أصوات من حزب “العدالة والتنمية” لتبرر خسارة المدن الكبرى عازية السبب لمحاباة حزبهم للاجئين وبخاصة السوريين منهم. في المقابل، لم يسلم السوريون المجنسون حديثاً من لوم المعارضة بعد كيل الاتهامات الكثيفة بحقهم واتهامهم بانتخاب الحزب الحاكم وضمان فوزه في الأرياف والمدن الصغرى.
أما عن أعدادهم، فتشير وزارة الداخلية التركية نهاية عام 2023، إلى أن “238 ألفاً و55 أجنبياً يحملون الجنسية السورية حصلوا على الجنسية التركية بشكل استثنائي”، وهؤلاء يحق لهم المشاركة بالانتخابات أسوة بالأتراك، ولهم تفضيلاتهم السياسية الخاصة.
يؤكد البيطار أن المواطنون المزدوجو الجنسية يميلون نحو التصويت لحزب “العدالة والتنمية” لأنهم يعتبرونه “خياراً طبيعياً”، فيما تشير التحليلات الصحفية للانتخابات الماضية، أن معظم مزدوجو الجنسية ينتخبون بالفعل “العدالة والتنمية”، وذلك لأنهم، بمعظمهم، من ذوي الميول الإسلامية المحافِظة و”يجدون تماهياً فكرياً مع الحزب الحاكم” بحسب صحف تركية معارضة. ومع ذلك، فإن بعض الناشطين السوريين يروّجون، حالياً، لفكرة تعزيز العلاقات مع جميع الأحزاب التركية للحدّ من انتشار الدعاية التي تستهدف الأجانب خلال الحملات الانتخابية، بحسب البيطار.
بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي، وبدرجة أقل مسألة اللاجئين السوريين، يرى البيطار أن “قضية جديدة” باتت لاعباً مؤثراً في الانتخابات المحلية وهي حرب غزة التي “تساهم في تخفيف الضغط على اللاجئين وتحظى بالاهتمام في التغطية الإعلامية والخطاب العام”. وهذا ما يتضح من مجمل الخطابات السياسية التركية، وبخاصة خطابات أعضاء الحزب الحاكم، الذين يُركزون على التصويب نحو إسرائيل وإبداء التعاطف العلني مع الفلسطينيين، و “تحويل ذلك دافعاً لتحصيل الأصوات عبر الظهور بأنهم ملتزمون مناصرة قضايا العالم الإسلامي”.
على الرغم من ذلك، لا يزال الشأن الاقتصادي والمعيشي في المرتبة الأولى خلال الانتخابات البلدية، متقدماً على قضية اللجوء وحرب غزة، “مما يسلط الضوء على أولوية شؤون الحياة اليومية على الأحداث الجيوسياسية”، بحسب البيطار.
ماذا تعني خسارة إردوغان لأنقرة واسطنبول؟
تحمل الانتخابات في أنقرة واسطنبول أهمية كبرى للمستقبل السياسي العام في تركيا. ففي حال فوز المعارضة، ستمثل هذه الانتخابات رمزاً لتقدمها السياسي التي طالما افتقدته، كما ستعني أن الحزب الحاكم فقد جزءًا من شعبيته وتأييده، وذلك على نحو يمكن أن يؤثر بشكل كبير على مستقبل البلاد والتوازنات السياسية الدقيقة بداخله.
وكان إردوغان قد أعلن في الثامن من آذار/مارس الحالي أن الانتخابات البلدية القادمة ستكون الأخيرة له، مشدداً أمام الجمهور التصويت لأعضاء حزبه من أجل “نقل الإرث إلى أشقائي الذين سيأتون بعدي”.
ويخوض أردوغان الانتخابات البلدية كأنها معركته الشخصية الخاصة، حيث يُشارك في اللقاءات الشعبية والمناسبات الجماهيرية والمقابلات التلفزيونية بشكل دائم. غير أن فقدان الحزب الحاكم للمدن الأساسية من جديد “سيُظهر ضعفاً في قاعدته الشعبية ويزيد من ثقة ومكانة المعارضة” بحسب تقرير نشرته مجلة “فورن بوليسي” الأميركية في 13 آذار/مارس الحالي. كما أن هذا الفوز يمكن أن يُفسَر على أنه رفض لسياسات الحزب الحاكم وللرئيس أردوغان بشكل عام، و “ميل الشباب إلى التغيير” حسب البيطار.
بدورها، تؤكد الناشطة السياسية المعارِضة إليف كاراسو في حديث لموقع “+963” أن المعارضة “بحاجة للفوز في الانتخابات لتؤكد للعالم عدم سطوة إردوغان على كل شيء في تركيا”. وعلى الرغم من موافقتها على النظرية التي تقول أن من يفوز في المدن الكبرى في الانتخابات البلدية يعزز حظوظه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، تشدد كاراسو أن البلديات “تبقى مرتبطة بمشاكل الناس اليومين وتفضيلاتهم الخاصة، وهي ليست مسيسة 100 في المئة، خاصة وأن العلاقات الشخصية لا تزال تلعب دوراً في تشكيل خيارات الجمهور”.
وفي حال خسر حزب “العدالة والتنمية” الانتخابات في أنقرة واسطنبول مرة أخرى، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً حسب كاراسو، فإن ذلك سيمثل انتكاسة كبيرة للحزب، و “يعطي فرصة للتغيير القادم”.
تبقى المعركة البلدية في تركيا أكبر من مجرد معركة على المناصب والسلطة المحلية، بل هي “معركة على مستقبل تركيا السياسي، وتؤثر على السياسة الوطنية والتوجهات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد”، بحسب مجلة “فورن بوليسي”. وعلى الرغم من تراجع قضية اللجوء السوري في الفضاء السياسي العام المرافِق للانتخابات المحلية، إلا أن الضغط على اللاجئين سيتسمر، تماماً كما سيستمر ترحيلهم وإعادة توطينهم في شمال سوريا، ودون أن تؤثر الانتخابات ونتائجها على هذه السياسة التي تبقى مرتبطة بالقرارات الحكومية والوطنية الكبرى.