يستعد حوالي 65 مليون تركي للمشاركة في الانتخابات البلدية المقررة في 31 مارس/آذار الجاري. تمثل المعركة الانتخابية القادمة لرجب طيب أردوغان نزالاً صعباً في وجه خصومه الكُثر، الساعين إلى تقويض بعض من نفوذه القوي في تركيا. ستتركز المعركة الأساسية في إسطنبول والعاصمة أنقرة، وهما بلديتان خسرهما حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في الانتخابات الماضية، ويديرهما الآن خصوم رئيس الجمهورية.
تأتي هذه الانتخابات بعد فشل المعارضة “الموحدة” في إحداث أي خرق جدي في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، وفوز حزب أردوغان فيهما. كما تشكّل الانتخابات القادمة امتحاناً لرئيس حزب “الشعب الجمهوري” الجديد أوزغور أوزال، أقدم وأعرق الأحزاب العلمانية في تركيا.
نزال شباب إسطنبول و”بائع الوهم”
ستشهد المدينة الأضخم في تركيا، إسطنبول، نزالاً انتخابياً حامياً، فيما تستعد جميع الأحزاب للمواجهة المرتقبة. اختار حزب “العدالة والتنمية” الحاكم مراد كوروم (47 عاماً)، وهو شخصية شابة ومرموقة شغلت منصب وزير البيئة والتخطيط العمراني سابقاً. ومنذ إعلان ترشيحه من قِبل إردوغان، سعى كوروم إلى الإفصاح عن مشروعه الانتخابي للمدينة، والذي تضمّن الكثير من الوعود “الخيالية” التي أُطلق عليه بسببها لقب “بائع الوهم”.
تمحورت هذه الوعود حول تخفيض كبير ومريب للضرائب على التنقل وخطوط الهاتف والخدمات التي تقدمها البلدية للناس. بدت هذه الوعود أقرب إلى “رشوة” معنوية من أجل كسب الجمهور التركي، وخاصة الفقراء منهم، وسكان ضواحي إسطنبول غير الراضين عن أعمال رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو (52 عاماً).
أما هذا الأخير، فلم تكن تجربته ناجحة جداً في رئاسة البلدية على مرّ السنوات الماضية. فقد عمد، خلال أغلب ولايته، إلى الدخول في مشاحنات على الصلاحيات والنفوذ والأعمال مع حزب “العدالة والتنمية” والمحافِظ والسلطات الحكومية. صحيح أنه أعطى للعلمانيين مكانة افتقدوها في مدينة إسطنبول منذ عشرات السنوات، كما حسّن بعض الطرق والخدمات الأساسية، إلا أن ولايته شهدت كذلك على ازدياد حالة الفوضى في إسطنبول، وخاصة في ضواحيها الآسيوية.
إضافة إلى ذلك، عمد إمام أوغلو إلى شخصنة المعركة الانتخابية في المدينة وربطها بنفسه. يعود هذا الأمر إلى سلوكه من ناحية، وإلى المحاولات القضائية والقانونية الكثيرة التي جرت في السنتين الماضيتين، حيث أوشك أن يُمنع من حقوقه المدنية والسياسية نتيجة قضايا رُفعت بحقه في المحاكم التركية.
ستكون الأنظار في إسطنبول موجهة إلى “نزال الشباب”، حيث يسعى رئيس البلدية الحالي المدعوم من حزب “الشعب الجمهوري” وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى إلى الاحتفاظ بمقعده، فيما يسعى حزب “العدالة والتنمية” إلى الظفر به.
يبقى أن الكثير من الأصوات والأحزاب لم تقرر بعد إلى أي مرشح ستميل، وخاصة الصوت الكردي القادر على إحداث فرق حقيقي في الانتخابات، والذي يبدو أنه سيخوض غمار المعركة الانتخابية وحيداً دون حلفاء كُثر.
استراتيجية أردوغان الانتخابية
سيخوض حزب “العدالة والتنمية” الانتخابات البلدية هذا العام مستنداً إلى فوزه في انتخابات الرئاسة والبرلمان التي جرت قبل 10 أشهر فقط. ومع ذلك، هناك العديد من التحديات الخطيرة التي تنتظر الحزب الحاكم، ومنها تراجع أرقامه الانتخابية لصالح تحالف الأحزاب المعارضة له.
يُراهن أردوغان على استمرار تفكك “تحالف الأمة” الذي يقوده حزب “الشعب الجمهوري”، وإمكانية خوض الأحزاب الصغيرة الانتخابات بشكل مستقل، وهو ما يساهم في تحسين ظروف المعركة لصالحه. يتواصل حزب “العدالة والتنمية” مع بعض هذه الأحزاب لإغرائها بالمناصب والنفوذ، وبالتالي إبعادها عن التحالف مع القوى المعارِضة الأخرى.
ومع ذلك، يتمتع رؤساء بلديات المدن الكبرى من حزب “الشعب الجمهوري” حالياً بقدرة التواصل المحلي والحركة بشكل أكبر مقارنة بعام 2019، مما يُمثل ميزة كبيرة لمنافسة حزب “العدالة والتنمية”. في المقابل، يركّز هذا الأخير على أمرين لتحسين ظروف معركته، أكان في إسطنبول أم في أنقرة على حدٍ سواء، وهما: تقديم الخدمات ضمن شبكة من المنافع والعلاقات بين القيادة والجمهور، وإعلاء شأن الخطاب الأيديولوجي في حديث ممثليه ومسؤوليه.
ثنائية الخدمات – الإيديولوجيا واضحة المعالم في أعمال حزب “العدالة والتنمية” حالياً، حيث يقوم مسؤولو الحزب بتقديم خطاب ذو طابع إيديولوجي ديني على مسامع الجمهور، فيما يتمتع مرشحا الحزب في إسطنبول وأنقرة بسجل خدماتي مثالي.
تحديات “العدالة والتنمية”: اللاجئون السوريون و”الحلفاء”
هذه الاستراتيجية المتعددة الأوجه قيد التنفيذ الآن في تركيا، فيما يبقى أمام حزب “العدالة والتنمية” بعض التحديات الجسيمة الأخرى، ومنها كيفية اتخاذ مواقف يُحب الجمهور سماعها في شأن اللجوء السوري، دون الارتباط بموقف أو وعود لا يريد الحزب تطبيقها.
لا يرى إمام أوغلو اللجوء السوري بعين إيجابية، بل يرى أنه “أكبر مشكلة” تواجهها بلاده ومدينته، كما ينتقد السلطات التركية معتبراً أن “سياسات الحكومة التي انتهِجت بشأن اللاجئين في العقد الماضي، ستسبب مشكلة كبيرة لتركيا بعد 30 أو 40 عاماً”، مؤكداً أن السلطات “وضعت حجر الأساس لهذه المشكلة”. في المقابل، لمرشح الحزب الحاكم، كوروم، تصريحات لا ترى اللجوء السوري بمثابة الخطر الداهم، إنما يعتبر وجودهم “يساهم في العمالة في بلدنا ومدينتنا، وهم سيعودون حين انتهاء الحرب في سوريا”.
إضافة إلى ذلك، تبرز صعوبات أمام الحزب الحاكم في التعامل مع بلديات مدن تُمثل معاقل لحزب “الشعب الجمهوري” كمدن إزمير، موغلا، وجناق قلعة وغيرها. فيما تُشير معظم الإحصاءات المتفائلة إلى أنّ فوز حزب “العدالة والتنمية” غير مرجح فيها.
تحدٍ آخر مرتبط بالتنافس مع “حلفاء” الأمس، وخاصة حزب “الحركة القومية” وحزب “الرفاه الجديد”. هذان الحزبان يتمتعان بحضور هام في المناطق الريفية، ويستطيعان الحصول على حصة مهمة من الأصوات التقليدية التي تصب عادة لصالح الحزب الحاكم. ويُتوقع أن تؤثر العلاقة بين هذه الأحزاب الثلاث، ليس على نتائج الانتخابات البلدية فحسب، إنما على مستقبل “تحالف الشعب” الذين يشكلون أبرز قواه.
على الرغم من أن حزب “العدالة والتنمية” يخوض الانتخابات المحلية بزخم متكلاً على انتصاراته السابقة، فإنه يواجه مشهداً انتخابياً معقداً ومتعدد الأوجه، تتراوح تحدياته من معاقل المعارضة إلى الديناميكيات داخل تحالفه السياسي، مروراً بإمكانية الخسارة مجدداً في المدن الكبرى. فيما يُنتظر أن تكون نتائج الانتخابات البلدية محورية في صياغة استراتيجيات الحزب المستقبلية، وحتى مكانته السياسية داخل تركيا.