القاهرة
يتّجه الاقتصاد المصري للدخول في مرحلة جديدة خلاصتها تعزيز النمو الاقتصادي وخفض الدين العام، بعد مرحلة من الانتكاسة الاقتصادية تراكمت خلالها الديون، وتراجع سعر صرف العملة المحلية وانخفض النشاط الاقتصادي.
جملة من المحطّات طبعت الربع الأول من العام 2024 بصبغة إيجابية، مهَّدَت لها القاهرة منذ منتصف العام 2023، مع إعلان وزير المالية محمد معيط، عزم بلاده طيّ صفحة الأزمة الاقتصادية مع نهاية العام. ومع بلوغ هذه المرحلة كانت مصر قد أحرزت تقدّماً على طريق تنشيط الحركة التجارية، جذب المستثمرين والعملة الأجنبية، خفض العجز الكلّي، وتحقيق فائض في الإنتاج المحلّي الإجمالي، وضمان الحماية الاجتماعية للأسر التي تحتاج ذلك.
صندوق النقد الدولي هو المدخل
يُعيَّب على صندوق النقد الدولي أنه يُحمِّل القطاع العام والمواطنين، العبء الأكبر من فاتورة خروج أي بلد من أزمته الاقتصادية. لكن يؤيّد البعض توصيات الصندوق إذ تجرّ معها إعادة ثقة المستثمرين الخارجيين، ليتحوَّل الصندوق بذلك، إلى بوابة عبور لأي اقتصاد مأزوم، نحو الاقتصاد الدولي، وتالياً نحو طريق الخروج من الأزمات، وإن بأكتاف باهظة أحياناً ومجحفة أيضاً للفئات الفقيرة وذوي الدخل المحدود.
وبعد توصُّل مصر إلى اتفاق مع الصندوق، يوم الأربعاء الفائت آذار / مارس، على زيادة قرضه لها من 3 إلى 8 مليارات دولار، أصبح بامكان البلاد العمل على خفض العجز الكلي وتحقيق فائض أولي في الناتج المحلي الإجمالي في حدود 3.5 بالمئة خلال العام المالي المقبل. وسيساعد الاتفاق في إعادة بناء الاحتياطات الدولية وزيادة الاحتياطي النقدي من العملة الأجنبية، وسيلعب دوراً في خفض الدين تحت 90 بالمئة ووضع سقف لإجمالي الاستثمارات العامة بكل قطاعات الدولة.
الاتفاق مع الصندوق ترافقَ مع طرح المركزي “أذون خزانة” لأجَل سنة، وهي عبارة عن سندات دين بلغت قيمتها 87.8 مليار جنية، ما يعادل 1.78 مليار دولار، بيعَت بمتوسط عائد نسبته 32.303 بالمئة، وذلك بعد رفع سعر الفائدة بمعدّل 6 بالمئة، لتصبح 27.25 بالمئة.
ولإضفاء الطمأنينة على الطرح، أوصى بنك “جي بي مورغان” بشراء تلك الأذون. وأعلنت وكالة موديز للتصنيف الائتماني، تعديل نظرتها المستقبلية لتصنيف مصر إلى “إيجابية”، وأبقت على التصنيف الائتماني للبلاد عند مستوى Caa1. وهذان الموقفان، يعطيان ضوءاً أخضر لأصحاب رؤوس الأموال للتوجّه نحو مصر والاستثمار هناك، باعتبار أن الاقتصاد المصري يخطو خطواته نحو التعافي.
وفي الوقت نفسه، خفّضَ البنك المركزي المصري سعر صرف الجنيه بشكل كبير مقابل الدولار، لتستقرّ العملة المحلية عند نحو 49.5 جنيه للدولار. وهذا القرار يشجع الاستثمار والإنفاق، ويُتَرجَم سريعاً في القطاعات الاقتصادية، سيّما في قطاع السياحة، إذ يقصدّ السيّاح عادةً الدول ذات العملة المنخفضة للاستفادة من انخفاض الأسعار والقدرة الشرائية المرتفعة للعملات الأجنبية مقابل العملة المحلية.
الاستثمارات والغاز
الخطوة المصرية باتجاه صندوق النقد وإجراء الإصلاحات المطلوبة، تصبّ في سياق بدأته القاهرة منذ العام 2019، على أمل وضع مصر على خريطة الاقتصاد والاستثمارات والغاز في منطقة الشرق الأوسط. ففي العام 2019 أعلنت مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، إنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط”، ومقرّه القاهرة، وذلك كنتيجة طبيعية لتوسيع رقعة اكتشافات النفط والغاز في منطقة شرقيّ البحر المتوسّط التي تحوي نحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، لمصر حصّة الأسد منها، إذ بدأت شركة إيني الإيطالية الإنتاج في حقل “ظهر” المصري، في العام 2015، وقدّرت حجم الغاز في الحقل بنحو 30 تريليون قدم مكعب، في حين أن حقل ليفياثان يحتوي على نحو 17 تريليون قدم مكعب من احتياطي الغاز، وحقل تمار يحتوي على نحو 10 ترليون قدم مكعب وحقل أفروديت يحتوي على نحو 8 تريليونات قدم مكعب، فيما يحتوي حقل تانين على نحو 1.2 تريليون قدم مكعب.
وما يعزّز مكانة مصر في ملف الغاز، هو وجود محطات تسييل الغاز لديها وربطها بأنابيب مع اسرائيل وقبرص.
ويشار إلى أن الإمارات العربية المتحدة، دخلت إلى المنتدى في العام 2020 كعضو مراقب، لكن العلاقة الإماراتية المصرية لم تنحصر في المنتدى، بل وصلت إلى إبرام صفقة استثمارية ضخمة، هي مشروع رأس الحكمة الاستثماري المقام على مساحة 170.8 مليون متر مربع، وسيتضمن أحياءً سكنية وفنادق عالمية ومنتجعات سياحية ومشروعات ترفيهية عملاقة. إضافة إلى المدارس والجامعات والمستشفيات لا ومباني إدارية والخدماتية، فضلاً عن منطقة حرة خاصة تضم صناعات تكنولوجية وصناعات خفيفة وخدمات لوجيستية، وحي مركزي للمال والأعمال لاستقطاب الشركات العالمية.
وبفعل المشروع، ستضخّ الإمارات في مصر تمويلاً بقيمة 35 مليار دولار، منها 24 مليار كسيولة مباشرة و11 مليار تُشطَب من ودائع الإمارات في البنك المركزي نتيجة تحويلها إلى الجنيه المصري وضخها في مشروعات لدعم التنمية والتطوير الاقتصادي.
ومن الإمارات إلى السعودية، تسعى مصر إلى توسيع علاقتها الاستثمارية مع السعودية من خلال امكانية تنفيذ مشروع تستثمر خلاله السعودية منطقة رأس جميلة المصرية الواقعة على البحر الأحمر، بقيمة تتخطّى الـ15 مليار دولار.
الاتجاه الإيجابي للاستثمارات وللاقتصاد المصري، ظهر بوضوح من خلال جذب مصر نحو 40 مليار دولار خلال أقل من أسبوعين. وهذه النتيجة يُبنى عليها للتأكيد على أن القاهرة تتّجه لإحداث تغيير كبير في واقعها الاقتصادية ودورها في المنطقة.