خاص – الحسناء عدره/دمشق
قضمت الحرب السورية الكثير من حصص السوريين بالسلام والأحلام والصحة النفسية، وحرمت العديد منهم من فرص العمل والقدرة على تحقيق الاستقرار المالي، ما أدى إلى تأزم وضعهم الصحي وتعرضهم لضغوطٍ نفسية خانقة سبّبت لهم اضطرابات عصبية وميول خطرة للانتحار، وهذه الحالات تنتشر بشكل كبير بين فئة الشباب التي شهدت وعاشت سنوات الحرب الطويلة، وهي الآن تواجه شبح الاكتئاب وتحاول مواجهة الأفكار الانتحارية بشتى الطرق.
وفي هذا السياق، كشف المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي الدكتور زاهر حجو لموقع “963+” عن أن “نسبة الانتحار في سوريا ازدادت 20 في المئة خلال سنوات الحرب مقارنة بالسنوات الماضية، ففي 2022، بلغت 175 حالة، منها 133 للذكور، و42 للإناث، فيما يعتبر عام 2020 الأعلى في عدد حالات الانتحار المسجلة التي بلغت 197 حالة، في حين وصلت إلى 124 حالة عام 2019”.
ثلاث محاولات انتحار هرباً من قيود العائلة
تروي الشابة نور معاناتها مع الاكتئاب والصراعات النفسية التي تعيشها، وتقول لـ”963+”: “اكتشفت أن أقراص الدواء محليّة الصنع، مغشوشة وغير فعالة، فهي لم تقتلنِ. وفي محاولتي الثانية لم أكن أعلم أنه عند قطع شريان اليدّ يجب أن أبقى في المياه، لقد عشت ثلاث محاولات انتحار جدّية باءت بالفشل”.
ولكن أسفرت إحدى محاولات الشابة السورية بالانتحار عن إصابتها بالصرع وفقدان مؤقت للذاكرة، إضافة إلى الآلام الجسدية والنفسية نتيجة تعرضها لأقسى أنواع الإهانات والنبذ. وتقول: “أنا يتيمة الأب، أرغمتني والدتي على الزواج متجاهلة رفضي، أتعرض للاحتقار والعنف الجسدي واللفظي من أمي وزوجي طوال الوقت، إلى أن اعتدت على الضرب والإهانة”.
وتعيش الشابة الثلاثينية بمدينة حماة التي تقع في المنطقة الوسطى، وتبعد عن العاصمة دمشق 210 كلم، وترعرعت في كنف عائلة متشدّدة دينياً واجتماعياً لا تسمح لها بممارسة أبسط حقوقها كالتعليم وارتياد الجامعة، على اعتبار أنها مكان موبوء بالفسق.
وتوضّح نور ما عاشته بسبب القيود المفروضة على حياتها: “حاولت الانتحار في المرة الأولى من أجل دراسة الشهادة الثانوية بسبب رفض أسرتي لذلك، فقمت بقطع شرايين يدي اليمنى، لكني لم أنجح، لأنه كان يتوجب غمر نفسي في المياه كي أضمن استمرار نزيف الدم”، ولكن نتيجة ذلك حرمت من رعاية طفلها بحجة أنها “كافرة” وغير جديرة بحمايته وتربيته.
وتضيف الشابة: “عندما حاولت دخول الجامعة ودراسة الهندسة، منعني زوجي، ولكنه وافق أن أدرس اختصاص التربية كونه فرع جامعي نسائي تجنباً للاختلاط، وبعد الكثير من المضايقات والضغوط وتشويه سمعتي، طلبت الطلاق فاتهموني بخيانة زوجي وبأنني على علاقة برجل آخر، حينها ملأت فمي بكمية من أقراص الدواء، ولكنها لم تؤثر عليّ، فنجوت مرة ثانية”.
وبعد التخرج قررت نور العمل في مجال تخصصها، لكن هذا الطلب يُعد ضرباً من الجنون بالنسبة لأسرة متشدّدة دينياً في الأصل، إلى جانب ما أسبغته الحرب من قيود وتزمت، لتعاودها فكرة الانتحار للمرة الثالثة، وتقول: “هذه المرة اكتشفت أمي الأمر وأرغمتني على التقيؤ، لكنني دخلت على إثر هذه المحاولة في غيبوبة لمدة يومين، وعندما استيقظت عانيت من فقدان ذاكرة مؤقت رافقها انعدام إدراك حسّي ومعرفي، كنت آكل بيدي كطفل لا يدرك ما يدور حوله ولا يعلم كيف يمسك الملعقة، كنت أنظر إلى الغرفة من حولي دون معرفة أسماء الأشياء الموجودة فيها وماهيتها”.
مشاهدات الحرب الصعبة تدفع جبران للإنتحار
في حين يعترف جبران أنه يفكر دوماً في إنهاء حياته ولكن الخوف يمنعه من ذلك في الوقت الحالي، ويقول: “أعترف بأنني أشعر بالخوف والجبن عندما أفكر بقتل نفسي، مرات عديدة حاولت إنهاء حياتي عبر إغلاق منافذ التهوئة في منزلي وتسريب الغاز والذهاب للنوم، غير أنني لم أجرؤ على ذلك قط، لكني متأكد أنني سأفعلها يوماً ما”.
تراكمات كثيرة دفعت الشاب البالغ من العمر 22 عاماً للتفكير بقتل نفسه، وقد بدأت هذه الأفكار في مرحلة الطفولة مع مشاهد قطع الرؤوس وركلها بين أقدام أحد التنظيمات المتشددة (داعش) عام 2014 التي سيطرت على منطقة الباب بريف حلب الشرقي، مروراً بالوضع الاقتصادي المتردّي الذي فرضته الحرب، إضافة إلى حاجة أسرته لدعمه المادي، كونه المعيل الوحيد لها.
ويحاول جبران الخروج من هذه الدوامة الصعبة، فخضع لجلسات علاج دوائي وسلوكي، لكنه توقف بعد فترة لشعوره بأنه غريب عن نفسه وأن شعوره بالسعادة المؤقتة سيختفي مع إيقاف الدواء. ويعلق الشاب لـ”963+” قائلاً: “مع استخدام الدواء تحسنت حالتي النفسية والمزاجية، شعرت بالسعادة والراحة، لكني لم أتأقلم مع الشخص الجديد الذي صرت عليه، وكأنه شخص لا أعرفه، شخص غريب عني”.
محمد ورحلة العلاج النفسي المتعثرة
في عمر التاسعة عشر شُخصت حالة محمد وهو سوري آخر أصيب باضطراب ثنائي القطب نتيجة سلسلة من الإحباطات والتراكمات التي أفقدته الرغبة في مواصلة الحياة، إلى جانب العيش في أجواء مضطربة وغير آمنة أسفرت عن فشله في الدراسة وهروبه إلى الانتحار.
ويقول الشاب البالغ من العمر 26 عاماً: “نزحت عائلتي إلى أماكن عدة بحثاً عن الأمان، ما خلق عندي حالة من انعدام الاستقرار النفسي، وانعكس على دراستي الجامعية، فتأخر تخرجي من فرع هندسة الميكانيك، ولجأت حينها إلى العلاج بالأدوية لأن جلسات العلاج السلوكي باهظة الثمن وليس بمقدوري تحمل تكاليفها، فاعتدت على تناول الدواء لأبعد نفسي عن الأفكار السلبية، ولكن للأسف فقدت معها الشعور بالتعاطف والتفاعل الإنساني، لم أعد أبالي، تحولنا منذ زمن إلى مجرد أرقام وإحصائيات للوفيات”.
ولا ينكر محمد تجاوزه للكثير من الأفكار الانتحارية التي كانت وما زالت تداهم عقله، ويوضح في حديثه لموقع “963+”: “لاحظت بعض التحسن في حالتي النفسية من خلال ارتفاع المزاج الإيجابي وازدياد رغبتي في الحياة والاستمتاع بها، ولكن فكرة الانتحار تراودني كل فترة وأراها بأنها طريقة لتفريغ الألم النفسي والصراع العبثي مع الذات. في الحقيقة أنا لا أستطيع دوماً التغلب على فكرة إنهاء حياتي، بل أعتقد أن الانتحار مهمة مؤجلة فقط”.
الاستشارات النفسية أونلاين هي الحلّ
لقد أثرت الحرب السورية على جيل كامل من الشباب وتسببت في ارتفاع حالات الاضطراب النفسي لا سيما العصبية والاكتئاب، ومع وجود نقص كبير في عدد الأطباء النفسيين بسبب الهجرة إلى أوروبا ودولٍ أخرى، لجأ غالبية الأشخاص إلى الاستشارات النفسية عبر الإنترنت للبحث عن علاج.
وتؤكد الطبيبة عهد الهوا الحائزة على دكتوراه في العلاج النفسي من جامعة “سانت كلمنتس” لموقع “963+” أنه “بات هناك حالة من الوعي لدى العديد من الشرائح الاجتماعية والعمرية بأهمية العلاج النفسي، وطالما أن المعالجين النفسيين المعتمدين والمدربين من الصحة العالمية لا يتجاوز عددهم 50 معالجاً، وهذا الرقم لا يكفي لتغطية سوريا، فكان الإنترنت هو الحلّ البديل، عبر خدمة الاستشارات النفسية أونلاين، حيث يؤمّن الأطباء المساعدة بشكل مجاني أو بكلفة بسيطة، ما يسمح لأكبر عددٍ من الناس الاستفادة من الخدمة وتحقيق مجتمع صحي نفسي أفضل وتحسين حياة الكثيرين. وكل الجلسات تحافظ على مبدأ السرية التامة ويتم متابعة المريض عبر جلسات أسبوعية إلى جانب العلاج الدوائي الذي يصفه الطبيب بحسب كل حالة”.