منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي، لا يكاد يمر أسبوع على السوريين دون العثور على مقابر جماعية في شتى أنحاء البلاد، مما يعكس حجم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام خلال سنوات الحرب. المقابر المكتشفة لا تقتصر على مواقع محددة، بل تنتشر في حدائق، مبانٍ سكنية مهجورة، شوارع، وحتى منشآت عسكرية، ما يكشف عن “استراتيجية ممنهجة” لإخفاء الضحايا وطمس الأدلة، وفق خبراء.
اكتشافات متتالية في درعا ودمشق
آخر الاكتشافات تمثلت في العثور على جثث في قطعة عسكرية بدرعا جنوبي سوريا، وأخرى في ضواحي دمشق الجنوبية. ويُتوقع أن تكون هذه الاكتشافات مجرد بداية في ظل وجود آلاف المفقودين السوريين وآلة القتل التي اعتمدها نظام الأسد طوال سنوات النزاع.
وكشف تقرير حقوقي صدر الجمعة الماضي عن المركز السوري للعدالة والمساءلة، أن أكثر من ألف سوري لقوا حتفهم أثناء احتجازهم في مطار عسكري على مشارف دمشق، أو تم إعدامهم، أو توفوا نتيجة التعذيب وسوء المعاملة. التقرير استند إلى شهادات شهود عيان، صور الأقمار الصناعية، ووثائق صُورت في المطار العسكري بحي المزة بدمشق بعد سقوط النظام.
ولا توجد إحصائية دقيقة لعدد المقابر الجماعية المكتشفة، لكن التقديرات تشير إلى عشرات المواقع التي تحتوي على آلاف الجثث. هذه الأدلة، بحسب الحقوقيين، تكفي لملاحقة بشار الأسد ورجالاته قضائياً، لكن التحدي الأهم الآن هو كيفية التعامل مع هذه المقابر لضمان كشف الحقيقة وتحقيق العدالة.
اقرأ أيضاً: فوضى السلاح تحصد أرواح الأبرياء في درعا جنوبي سوريا
مسرح جريمة يحتاج للحماية
تُعد المقابر الجماعية مسارح لجرائم النظام السوري، حيث يُعتقد أنها تضم عشرات الآلاف من الجثث، ليس فقط في دمشق بل في عموم المدن السورية. الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) حذر من العبث بهذه المواقع، مؤكداً أن التدخلات غير المهنية تمثل انتهاكاً لكرامة الضحايا وحقوق عائلاتهم، كما تُلحق ضرراً بالغاً بالأدلة الجنائية الضرورية لكشف مصير المفقودين ومحاسبة الجناة.
عز الدين صالح، المدير التنفيذي لرابطة “تآزر” للضحايا، شدد في تصريح لموقع “963+” على أن هذه المقابر تشكل مصادر معلومات حيوية ستسهم بشكل كبير في كشف مصير المفقودين وتسليم الرفات لأهاليهم. صالح حذر من أن أي عبث أو نبش غير منهجي سيؤدي إلى تشويه الأدلة الجنائية وإعاقة الوصول إلى الحقيقة.
ووجهت “تآزر” وعائلات الضحايا في “ميثاق الحقيقة والعدالة” نداءً إلى الحكومة السورية الجديدة والجهات المعنية لتفويض مجموعات مختصة بحماية المقابر الجماعية ومنع أي جهة، بما في ذلك أهالي المفقودين، من الوصول إليها دون إشراف رسمي. كما دعت إلى التعاون مع “المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين”، وهي الهيئة الدولية المكلفة بتوضيح مصير جميع المفقودين في سوريا.
اقرأ أيضاً: “داعش” يطلّ برأسه.. هل يستغل الأوضاع في سوريا لترتيب صفوفه؟
عملية معقدة تتطلب جهداً علمياً
صالح أكد أن عملية نبش المقابر تحتاج إلى تنفيذ منهجي من قبل متخصصين محترفين لضمان استخلاص نتائج دقيقة. العملية تتضمن مراحل متعددة تشمل البحث، التحقق، وتحليل الأدلة الجنائية، كما تتطلب مشاركة أهالي المفقودين لكونهم أصحاب الحق والمصدر الأساسي للمعلومات.
فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR)، أوضح أن معالجة المقابر الجماعية تتطلب إجراءات دقيقة تشمل توثيق المواقع، احترام كرامة الضحايا، جمع الأدلة الجنائية، وتحديد هوية الجثث. هذه الإجراءات ضرورية لضمان تحقيق العدالة ومساءلة الجناة.
عبد الغني شدد في تصريحات لـ”963+” على أهمية حماية هذه المواقع باعتبارها مسارح جريمة، محذراً من أن أي تخريب سيؤدي إلى ضياع الأدلة ضد مرتكبي المجازر. كما أشار إلى ضرورة تسوير المقابر ومنع وسائل الإعلام من الاقتراب منها، والاكتفاء بالتصوير الجوي لتجنب تغيير ملامح المواقع.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر، عبر رئيس بعثتها في سوريا ستيفان ساكاليان، أكدت أن تحديد هوية الضحايا قد يستغرق سنوات. اللجنة تعمل على توعية السكان بعدم استخراج الجثث دون إشراف مختصين، وتتواصل مع عائلات المفقودين ومنظمات المجتمع المدني لجمع معلومات دقيقة عن مواقع المقابر.
ساكاليان دعا السلطات السورية الجديدة إلى حماية مواقع القبور وصون السجلات ذات الصلة، مشيراً إلى أهمية تدريب المتخصصين ووضع آليات تنسيق شاملة تتيح للمنظمات الدولية المشاركة في هذه المهمة الضخمة.
أرقام مفزعة
منذ بداية النزاع، سجلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتعاون مع جمعيات الهلال الأحمر 35 ألف حالة فقدان في سوريا، مع تقديرات تشير إلى أن العدد الحقيقي قد يكون أكبر بكثير. منظمة “اللجنة الدولية المعنية بالأشخاص المفقودين” في لاهاي تلقت بيانات تفيد بوجود 66 موقعاً محتملاً لمقابر جماعية، مع تجاوز عدد المفقودين المبلغ عنهم 150 ألفاً.
الوضع في سوريا بعد سقوط نظام الأسد يكشف عن كارثة إنسانية تتطلب استجابة عاجلة ومنظمة. حماية المقابر الجماعية، توثيق الأدلة، وتحديد هوية الضحايا ليست مجرد إجراءات قانونية، بل خطوات ضرورية لتحقيق العدالة وإنهاء معاناة آلاف العائلات التي لا تزال تبحث عن أحبائها المفقودين. الجهود الدولية والمحلية يجب أن تتكامل لضمان كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم الوحشية.