لا يترك أعضاء “النخبة” السياسية والعسكرية والثقافية والإعلامية من الحاكمين الجدد لسوريا مناسبة إلا ويؤكدون على حتمية تأسيس “دولة قوية” في سوريا، رافعن الأمر إلى مستوى يكون فيه ذلك الأمر مشروعهم الاستراتيجي الأعلى، مرجعاً لمجمل رؤيتهم السياسية، ومصدراً لسلوكهم وعلاقاتهم مع الآخرين، بالذات مع القوى السياسية والجماعات الأهلية الداخلية.
يقدم هؤلاء مروحة واسعة من الحجج التي تدفعهم لتشييد ذلك، مدعين أن التفكك السياسي والحرب الطاحنة والتدخلات الخارجية والفقر الاقتصادي والمهانة التي لحقت بالسوريين في دول الجوار والعالم طوال السنوات الماضية، كانت نتيجة ضعف دولتهم، مضيفين إن الدولة القوية وحدها قادرة على حماية وحدة الأراضي السورية من التفكك، ومكوناتها الأهلية من التصارع والصدام المستقبلي. بل وإعادة صورة وهوية السوريين “القوية” ضمن المحيطين الإقليمي والعالمي.
لا يحتاج المرء إلى الكثير من الحصافة ليعرف أن الحجج المُقدمة، وإن كانت حاضرة على أرض الواقع، أنما حدثت لأسباب مختلفة وشديدة التركيب، وليس لضعف الدولة أو هشاشتها.
ولا يحتاج لحصافة أكثر، ليعرف أن خطاب “الدولة القوية” والمراد السياسي الأعلى المُبتغى للساعين إليه، هو تأسيس نظام حكم شديد المركزية، مغلق سياسياً بالضرورة، معتمد في جوهره على نواة صلبة ستكون “الدولة العميقة الحاكمة لكل شيء”، ذات هوية داخلية أهلية بالضرورة، لا تثق وتستأمن إلى أبناء قومية/طائفة بعينهم، وقبل كل ذلك، كثيرة الحذر من العالم الخارجي وأدواته ومنتجاته، المرنة منها بالذات، مثل المؤسسات الدولية والقيم الثقافية ومنظومة قيم الحريات العالية، مخافة تسربها إلى الداخل السوري.
لكن الأهم، أن ما يطالب ويتطلع إليه الحاكمون الجدد، يبدو لغير صدفة مطابقاً لما كانت عليه الأسدية طوال عهدها الطويل والقاسي.
فهي، أي الأسدية، كانت في واحدة من أهم تعاريفها “دولة قوية” للغاية، انتجتها عبر سلسلة من الأولويات المُفرزة لتلك القوة. فحسب الأسدية، كان للدولة وأجهزتها العسكرية والقمعية أولوية على المجتمع، وللخارج والعلاقات معه أولوية على الداخل، ولاستقرار النظام أولوية على حصول الناس على حقوقهم، القانونية والسياسية والمدنية. فالأسدية في باطن وعيها كانت تفضل القوة المستقرة المستمدة والمستندة على مؤسسات الدولة وأدوات العنف، على “الهشاشة القلقة”، التي قد تجلبها أشياء مثل حصول المجتمع على حقه في الحريات العامة أو الصراع السياسي الحر بين الأحزاب أو حضور الجماعات الأهلية وفاعليتها في مجالها الخاص.
في المحصلة، ونتيجة لذلك، أوليس كل هذا الخراب العميم هو من مخلفات “القوة الأسدية”، وشكيمتها التي تجاوزت الحدود السورية، لتكون “نظام قوة” على مستوى الإقليم، تفرض سطوتها وعنفها وانتظامها المُحكم على دول الجوار “الهشة”، مثل لبنان. فالسوريون لم يحصدوا من إرث القوة الأسدية إلا الصراع الأهلي ودمار المجتمع والعوز الاقتصادي، لكن أولاً انهيار الدولة ومنظومة القيم وشكل الحياة.
بذلك المعنى، كانت الأسدية انقلاباً على “سوريا الهشة”، التي عاشت سنوات قليلة ومضطربة بين عامي 1945-1963، كانت خلالها ملعباً سياسياً لدول الجوار، وشهدت انقلابات عسكرية متتالية، اندماجا وحدوياً مع دولة أخرى، صراعات داخلية معلنة وواضحة، أحزاباً جماهيرية شعبوية، وأشكالاً مركبة من الصراعات الطبقية والأهلية والمناطقية، لكن دوماً صراعات مُعلنة وواضحة المعالم وقابلة للحل والتفكيك، لأنها كانت صراعات غير مسورة بسطوة عنف الدولة و”قوتها”، المتأتية من مركزيتها وسيطرة مؤسساتها على كل تفصيل من الحياة العامة.
لكن تاريخ “سوريا الهشة” تلك يقول أشياء مختلفة، مثل تحقيق أعلى نسب التنمية الاقتصادية والبشرية طوال تاريخ البلاد، عدم حدوث أي صِدام أهلي قط في زمانها، تحقق مستويات عالية من الاندماج الأهلي والشعبي، تقديم أفضل أنواع الخدمات العامة، بالذات في قطاعات الصحة والتعليم، سلام سياسي مستدام مع كل دول الجوار، خلو البلاد من أي سجين سياسي، وقدرة الناس المستدامة والمصانة في التعبير عن الذات والأفكار والطروحات السياسية. استقرار الدولة ومؤسساتها ومواثيقها على الرغم من تبدل الحُكام بين سنة وأخرى، عمران سكاني بهي وطافح في كل حدب، اندماج باهر مع الكل العالمي، بالذات على المستوى الثقافي والفكري والسياسي.
بهذا، فأن الثورة السورية كانت انتفاضة عمومية ضد “سوريا القوية”، وطلباً للعودة إلى “سوريا الهشة”. مطابقين بذلك نماذج عالمية باهرة، وحتى على مستوى منطقتهم. فلبنان “الهش” كان مكاناً للعيش أكثر من “العراق القوي”، وسلطنة عُمان الحيادية كانت أكثر أمناً من ليبيا المتدخلة في شؤون الآخرين.. وهكذا.