تسعى روسيا إلى إعادة تموضعها في سوريا عبر التقارب مع القيادة السورية الجديدة، وتحسين علاقاتها مع الحكام الجدد في دمشق، بعد أن كانت الداعم الأبرز لنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، الذي فرّ إليها في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وشهدت الفترة الأخيرة محادثات بين موسكو والقيادة السورية الجديدة، حيث ناقش رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع مع الجانب الروسي مستقبل الوجود العسكري الروسي في البلاد. وبحسب تقارير، فإن المحادثات التي جرت في كانون الثاني/يناير الماضي حول استمرار سيطرة موسكو على قاعدتي طرطوس وحميميم لم تفضِ إلى نتائج واضحة، ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تقديم عروض مغرية للمساعدة في إعادة إعمار سوريا.
وخلال مكالمة هاتفية الأسبوع الماضي، أكد بوتين للشرع استعداد بلاده لتقديم مساعدات اقتصادية وتجارية من شأنها إنعاش الاقتصاد السوري المتعثر. وأعقب هذه المكالمة إرسال دفعة جديدة من العملة المحلية السورية من روسيا إلى دمشق في محاولة للتخفيف من أزمة السيولة النقدية، وفقاً لما نقلته وكالة الأنباء السورية الرسمية.
اقرأ أيضاً: الثقة الأوروبية بسوريا.. بين المصالح الاستراتيجية والواقع الداخلي المضطرب؟
ضغوط أوروبية ومخاوف جنوب أوروبا
يخضع التواجد الروسي في سوريا لضغوط أوروبية متزايدة تطالب موسكو بسحب قواتها من البلاد. إلا أن بعض الدول، خاصة في جنوب أوروبا، تخشى أن يؤدي انسحاب روسيا إلى إعادة توجيه اهتمامها نحو ليبيا، ما قد يزعزع استقرار المنطقة هناك. وبذلك، تظل موسكو تتمسك بوجودها العسكري في سوريا، معتبرة أن قاعدتي طرطوس وحميميم تشكلان عنصرين رئيسيين في استراتيجيتها الإقليمية، حيث تتيحان لها تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا.
وكشفت وكالة “بلومبرغ” أن روسيا تعتزم الإبقاء على وجود عسكري “محدود” في سوريا، سعياً لتحقيق هدف استراتيجي لبوتين، حتى بعد سقوط نظام الأسد. وتقترب موسكو من التوصل إلى اتفاق مع الحكومة السورية الجديدة يسمح لها بالحفاظ على بعض الموظفين والمعدات العسكرية في البلاد، إضافة إلى الاحتفاظ بالقواعد البحرية والجوية التي كانت تستخدمها سابقاً، لا سيما ميناء طرطوس وقاعدة حميميم الجوية، وفق مصادر مطلعة.
وتزامناً مع تحسن العلاقات بين موسكو ودمشق، تجري روسيا والولايات المتحدة محادثات حول ملفات إقليمية عدة، أبرزها الوضع في أوكرانيا. وتصرّ موسكو على عقد لقاء تشاوري بين رئيسي البلدين، ما يعكس مساعي روسيا لكسر عزلتها الدولية.
وشهدت العاصمة السعودية الرياض مؤخراً محادثات بين موسكو وواشنطن، وصفتها موسكو بأنها “إيجابية”، خاصة بعد إطلاق الكرملين سراح المعلم الأميركي مارك فوغل، ما مثل خطوة نحو استعادة بعض المعايير الديبلوماسية بين البلدين.
كما أسفرت المحادثات عن اقتراح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو رفع مستوى التمثيل الديبلوماسي بين السفارتين الروسية والأميركية، بعد فترة طويلة من التوتر أعقبت استخدام روسيا غاز أعصاب ضد الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال في بريطانيا.
اقرأ أيضاً: هل تنجح واشنطن بإقناع الشرع في توطين غزيين في سوريا؟
تحديات وفرص
يرى يحيى العريضي، الأكاديمي السوري المقيم في فرنسا، أن لدى روسيا “هاجساً تاريخياً” للوصول إلى المياه الدافئة، تجنباً للعزلة الجيوسياسية، وسعياً لتعزيز وجودها العالمي. وقال العريضي لموقع “963+”: “نظام الأسد المخلوع منح روسيا الأمنية التي كانت تحلم بتحقيقها، إذ تمكنت من بناء قاعدة كبيرة في حميميم، لكن في المقابل، روسيا دعمت طغيان الأسد وارتكبت طائراتها مجازر بحق السوريين، ولم تستطع إنقاذ نظامه المتهاوي”.
وأشار العريضي إلى أن القيادة السورية الجديدة ليست في وارد المواجهة مع روسيا، لكنها تبحث عن “خروج مشرف” لموسكو من البلاد، قائلاً: “لم أستوعب هذه العبارة، خاصة أنها تأوي سبب المصيبة السورية”. وأضاف أن الإدارة الحالية ستحاول موازنة الضغوط الأميركية والأوروبية المطالبة بإخراج القوات الروسية، مع الإبقاء على علاقات “عادية” مع موسكو.
وفي المقابل، يرى بسام البني، الكاتب والباحث السياسي المختص في الشؤون الروسية، أن الوجود الروسي في سوريا سيظل “محدوداً” بناءً على نتائج المشاورات والاتفاقات التي تحدد ملامحه النهائية. وأوضح البني في تصريح لموقع “963+” أن “روسيا لن تتدخل في الشؤون الداخلية السورية مستقبلاً، لأن موقفها سيكون محدوداً وضعيفاً”.
وأضاف البني أن العلاقة بين موسكو ودمشق ستكون مبنية على “مصالح مشتركة”، مستبعداً أن تتجه سوريا نحو أوروبا لطرد القوات الروسية، خصوصاً في ظل تحسن العلاقات الروسية-الأميركية. وختم بالقول: “عالم متعدد الأقطاب سيعود بالفائدة على الجميع، على عكس الاعتماد على حليف واحد فقط”.
ويبدو أن القيادة السورية الجديدة، بحسب مراقبين، تواجه معادلة معقدة بين الضغوط الغربية والدعم الروسي، حيث تسعى لتحقيق توازن في علاقاتها الخارجية يضمن استقرارها الداخلي ويجنبها الدخول في مواجهات لا تخدم مصالحها.