في تحول لافت على الساحة الدولية، منحت الدول الأوروبية ثقتها للإدارة الانتقالية في سوريا، في خطوة تعكس تغيراً في الموقف الأوروبي تجاه المشهد السوري بعد سنوات من القطيعة والعقوبات. وبينما ترى العواصم الأوروبية أن هذا الدعم يحمل فرصاً لتعزيز الاستقرار الإقليمي وخفض أزمات اللاجئين، يبرز تساؤل جوهري: هل يمكن للإدارة الانتقالية ترجمة هذا الدعم إلى واقع ملموس، أم أن التعقيدات الداخلية ستظل حجر عثرة أمام إعادة بناء البلاد؟ أم هو مصالح استراتيجية؟
وكانت قد أعلنت نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية لشؤون الشرق الأوسط، دوبرافكا زويكا، عن أن الاتحاد الأوروبي منح الثقة للإدارة الانتقالية في سوريا، مشيرةً إلى أن الدول الأوروبية ترى تطورات إيجابية في الخطوات التي اتخذتها هذه الإدارة، وكذلك في التصريحات الرسمية الصادرة عن وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني.
اقرأ أيضاً: مسؤولة أوروبية: دول الاتحاد منحت الثقة للإدارة الانتقالية في سوريا – 963+
أوروبا والمصالح الاستراتيجية في سوريا
يأتي هذا التحول الأوروبي بعد سنوات من العقوبات والتوجس من الوضع السوري، حيث كانت دول الاتحاد الأوروبي تتبنى موقفاً صارماً تجاه النظام السابق في دمشق. إلا أن سقوط هذا النظام ووصول إدارة انتقالية جديدة خلق فرصة لدول أوروبا لإعادة تقييم سياستها تجاه سوريا. ويرى خبراء أن هذا التوجه الجديد “ليس فقط مبنياً على الاعتبارات الإنسانية، بل يتماشى مع المصالح الاستراتيجية الأوروبية في المنطقة”.
وفي هذا السياق، أكد الخبير في الشؤون الأوروبية والدولية، زاهي علاوي، في تصريحات لموقع “963+” أن تغير الموقف الأوروبي جاء نتيجة “تحولات جذرية في المشهد السياسي السوري”.
وأضاف علاوي: “الاتحاد الأوروبي، الذي كان يفرض عقوبات قاسية على النظام السابق، فضل التريث قبل اتخاذ أي قرارات حاسمة تجاه الإدارة الجديدة، إلا أن التصريحات الصادرة عنها دفعت الاتحاد إلى تبني موقف أكثر مرونة، تمثل في التواصل مع القيادة السورية الجديدة وصولًا إلى توجيه دعوات رسمية للرئيس السوري لزيارة فرنسا وألمانيا”.
وأشار علاوي إلى أن هذا الدعم الأوروبي ليس مجرد مجاملة سياسية، بل “يندرج ضمن استراتيجية أوسع لتحقيق الاستقرار في سوريا”، مما يسهم في “تقليل أعداد اللاجئين إلى أوروبا والحد من تداعيات الأزمات السياسية والاجتماعية المرتبطة بهم داخل القارة”.
كما أكد الخبير في الشؤون الأوروبية والدولية، أن “استقرار سوريا يسهم في الحد من صعود التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، والتي استغلت أزمة اللاجئين لتعزيز شعبيتها”.
اقرأ أيضاً: غير بيدرسون: لا يمكن تحمل فشلاً آخراً في سوريا – 963+
مؤتمر باريس: تعهدات بالدعم وإعادة الإعمار
جاءت هذه التطورات بعد مؤتمر باريس الدولي حول سوريا، الذي وصفه وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بأنه كان “قيّماً ومثمراً”، مشيراً إلى أن الدول المشاركة قدمت “تعهدات بدعم الإدارة الانتقالية والشعب السوري لإعادة إعمار البلاد”.
وأكد أن المؤتمر شهد “إرادة قوية لدعم العملية السياسية والحوار الوطني” في سوريا، في حين اختتمت أعماله ببيان يؤكد على دعم الشعب السوري في “حقه بتقرير مصيره وبناء دولته الجديدة على أسس العدالة والمساواة”.
من جانبه، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في ختام المؤتمر، إن الإدارة الانتقالية في سوريا “تحمل أملاً لجميع السوريين ويجب أن تلقى الدعم الدولي اللازم”، مشدداً على أن احترام مكونات الشعب السوري وتحقيق تطلعاته هو “مفتاح استقرار البلاد”.
الدعم الأوروبي تجاوز التصريحات السياسية ليأخذ طابعاً عملياً، حيث أُعلن عن تقديم 50 مليون دولار دعماً للإدارة الانتقالية، بالإضافة إلى توجه العديد من الدول الأوروبية نحو رفع العقوبات الاقتصادية تدريجياً عن سوريا.
كما شهدت الفترة الأخيرة زيارات مكثفة لوزير الخارجية السوري لعدة عواصم أوروبية، من بينها باريس، في مؤشر واضح على رغبة أوروبا في إعادة بناء العلاقات مع سوريا بشكل يخدم المصالح المشتركة.
اقرأ أيضاً: فيدان يبحث مع روبيو وبيربوك الأوضاع في سوريا – 963+
الوضع الداخلي في سوريا: حالة من الترقب والقلق
رغم التفاؤل الأوروبي والتقدم الديبلوماسي الذي حققته الإدارة الانتقالية، إلا أن الواقع السوري لا يزال يعاني من حالة من عدم الاستقرار الداخلي، وفقاً لما أكده الباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، طارق عجيب.
وأوضح عجيب في تصريحات لـ”963+” أن سقوط النظام السابق شكل “نقطة تحول جوهرية في المشهد السياسي، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تبني سياسة جديدة لدعم الاستقرار، إلا أن التحديات الداخلية في سوريا لا تزال ماثلة بقوة”. فرغم النشاط الديبلوماسي المكثف للإدارة الانتقالية، هناك “مخاوف متزايدة بشأن مدى قدرتها على تحقيق إصلاحات حقيقية تستوعب جميع مكونات المجتمع السوري”.
وأشار إلى أن بعض الدول الأوروبية “لا تزال تبدي تحفظات بشأن دعم الإدارة الانتقالية، بسبب علاقاتها السابقة مع تنظيمات مصنفة إرهابية وفق قرارات الأمم المتحدة والدول الغربية، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى قدرتها على ترسيخ الاستقرار بعيداً عن الإقصاء والانفراد بالسلطة”.
اختلالات داخلية وغياب الثقة الشعبية
رغم الوعود التي قدمتها الإدارة الجديدة، إلا أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي داخل سوريا لا يزال هشاً، حيث يعاني المواطنون من أزمات معيشية خانقة، ناجمة عن سياسات النظام السابق واستمرار غياب خطط اقتصادية واضحة.
وفي هذا الصدد، أكد عجيب أن هناك “تناقضاً واضحاً بين التصريحات الإيجابية التي تصدر عن الإدارة الانتقالية على المستوى الدولي، والواقع الداخلي في سوريا، حيث تسود حالة من عدم الرضا الشعبي تجاه العديد من القرارات الحكومية، وسط تزايد الشكاوى والمخاوف من استمرار الاختلالات الإدارية والاقتصادية”.
اقرأ أيضاً: الأمم المتحدة: أكثر من 70% من السوريين يعانون أزمة إنسانية هائلة – 963+
وأضاف أن الاتحاد الأوروبي، رغم إبداء استعداده لدعم سوريا، إلا أنه “يربط أي دعم إضافي بإجراءات ملموسة لتحسين الأوضاع الداخلية”، مشيراً إلى أن الدعم الأوروبي لن يكون “مجرد وعود وتصريحات، بل يحتاج إلى خطوات إصلاحية فعلية يشعر بها المواطن السوري أولاً، ثم المجتمع الدولي”.
وبينما تسعى الدول الأوروبية إلى تعزيز استقرار سوريا من منطلق مصالحها الاستراتيجية في تخفيف أزمة اللاجئين، ومواجهة التيارات المتطرفة، وخلق فرص اقتصادية جديدة، فإن التحديات الداخلية في سوريا لا تزال تثير الشكوك حول مدى نجاح الإدارة الانتقالية في تحقيق إصلاحات حقيقية.
ويرى مراقبون أن الدعم الأوروبي لسوريا، رغم كونه فرصة ثمينة للإدارة الجديدة، “إلا أنه مشروط بالخطوات العملية على الأرض، وهو ما يجعل الفترة المقبلة حاسمة في تحديد مدى قدرة سوريا على تجاوز أزماتها الداخلية والانتقال إلى مرحلة جديدة من الاستقرار والتعاون الدولي”.