دمشق
في ساحة برج الروس وسط حي القصاع بدمشق، تصعد درجات مبنى يحمل الطابع الفرنسي، لتدخل إلى عالم من البهاء والجلال الفني، حيث غاليري “زوايا”، الذي احتضن على مدار خمس سنوات أنشطة ثقافية وفنية راقية، شملت الموسيقى والغناء وعروض الأفلام ومعارض الفن التشكيلي، إضافة إلى ندوات ونقاشات حول الفنون ومواضيع أخرى.
وكان الغاليري قد واجه ضغوطاً متزايدة من سلطات النظام السوري السابق، مما دفع السيدة رولا سليمان، مديرة المكان، لاتخاذ قرار إغلاقه في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2014، وذلك بعد فرض تكاليف مالية وصفتها بـ”الجائرة”، رغم أن الغاليري غير ربحي ويتبع وزارة الثقافة، مما يعني أنه لا علاقة له بالضرائب المالية. لكن مع التطورات السياسية، وزيارة ممثل عن “هيئة التحرير” للمكان، قررت سليمان التريث في تنفيذ القرار.
وفي حديث خاص لموقع “963+”، قالت سليمان: “في العام الماضي، توقفت عن إقامة المعارض بسبب الضغوط المالية، رغم التزامي بواجباتي تجاه اتحاد الفنانين التشكيليين. فقررت إغلاق الغاليري في 15 ديسمبر، ولكن مع سقوط النظام، تراجعت عن القرار، غير أنني لم أحسم أمري بعد. إذا فرضت قيود على الفن، فقد أضطر إلى الإغلاق، لأن الحرية لا تعني إلغاء الفنون، بل على العكس، يجب أن تتسع الآفاق وتُرفع القيود”.
القيود على المحتوى الفني
أشارت سليمان إلى زيارة طبيب من إدارة العمليات العسكرية في دمشق، طلب منها إزالة اللوحات العارية والمنحوتات، لكنها لم تلتزم بذلك، مؤكدة أن حرية الفن تعني رفض أي شكل من أشكال التقييد.
وتقول: “زارني طبيب من الهيئة وكان لطيفًا جدًا، لكنه طلب ألا تكون هناك لوحات عارية، رغم أن الأعمال لدي ليست واقعية بل تميل إلى الانطباعية والتعبيرية. كما سألني عن المنحوتات وطلب ألا تكون موجودة، لكني لم ألتزم بذلك، وما زالت الأعمال معروضة، لأن الحرية عكس القيود، وسأستمر بالعمل بطريقتي، ولا أعرف متى سأغلق المكان”.
“أكثر من غاليري”.. فلسفة زوايا الفنية
تأسست صالة “زوايا” في عام 2019، وكانت تهدف إلى تقديم تجربة ثقافية متكاملة، حيث تقول سليمان: “كنت أفكر في تقديم كافة أشكال الثقافة والفنون تحت شعار ‘أكثر من صالة عرض فن تشكيلي’، لأنني أؤمن بأن الفنون مترابطة. عملنا على المعارض التشكيلية، إضافة إلى ليالي موسيقية، وقراءات مسرحية، ونادي قراءة، وفعاليات للأطفال. حتى عند العمل على التراث، واجهنا مضايقات لأن هذا المجال كان محتكرًا للسيدة الأولى آنذاك”.
إلى جانب العقبات السياسية، واجهت سليمان تحدياً قانونياً في ظل عدم وجود ترخيص يشمل الأنشطة المتعددة التي كانت تنظمها: “لم يكن هناك ترخيص يشمل كل هذه الفعاليات، لكني استمريت بها، لأنني أرى أن الفنون لا يمكن فصلها عن بعضها البعض”.
الضغوط الأمنية وطلب كتابة التقارير
من بين المواقف التي تعكس طبيعة القيود التي فُرضت على زوايا خلال فترة النظام السابق، تروي سليمان حادثة غريبة: “ذات مرة زارني عنصر من الأمن السياسي، إذ كنت بانتظار موافقة لإقامة معرض لفنانة عراقية، وكان من الغريب أن يُطلب موافقة أمنية للفن! عندما حضر، سألني عن الفنانة وكيف تعرّفت عليها، ثم طلب مني كتابة تقارير عن زوار الغاليري. كان الأمر صادماً، وتخيلت حينها عدد كُتّاب التقارير الذين قد يكونون دخلوا إلى صالتي”.
وواجهت سليمان تحدياً آخر عند تنظيم حفلة موسيقى كلاسيكية، حيث طلبت نقابة الفنانين ترخيصاً، لكنها فوجئت بأنهم اعتبروا المسرح داخل الغاليري ملكا لهم. وعندما حاول أحد الأشخاص مساعدتها بالحصول على ترخيص، كانت المفاجأة الكبرى: “سألته عن الترخيص فقال ‘حفلة طهور’! لم أستطع تصديق الأمر، وتخيلت العنوان: ‘غاليري زوايا يقيم حفلة طهور’. انفجرت ضحكًا، فاقترحوا ترخيصًا باسم ‘صباحية نسوان مع دي جي’، رغم أن الحفل كان مقررًا في الثامنة مساءً!”.
غاليري زوايا.. تجربة فنية فريدة
يرى الفنانون المشاركون في أنشطة الغاليري أنه يحمل طابعاً خاصاً، إذ يقول الفنان التشكيلي نبيل السمان، لـ”963+”: “زوايا مشروع وطني واجتماعي يهتم بالفنانين الشباب والتجارب الجديدة، مما يشجع الجيل الجديد”.
أما النحات مناف إبراهيم حسن، الذي أقام معرضه الفردي الأول في زوايا، فيقول لـ”963+”: “ما يميز زوايا هو الروح العائلية، حيث تصبح صاحبة الصالة صديقة بعد المعرض. إنه مكان حميمي يشاركك همومك الفنية”.
وتتفق النحاتة أمل زيات، المشاركة في معرض حالي، على أهمية دور الغاليري، قائلة لـ”963+”: “أتاح لنا زوايا فرصة إقامة معرض في هذه الفترة الصعبة، ونحن نحاول أن نرفع صوت الثقافة والفن التشكيلي ليبقى حاضراً”.
وعن خطط الغاليري المستقبلية، أوضحت سليمان أن هناك أنشطة مرتقبة: “نحضر خلال شهر شباط لجلسة قراءات لمونولوجات عن غزة، إضافة إلى عرض فيلم، كما نأمل تنظيم معرض تشكيلي جديد قريباً”.
ورغم التحديات التي تواجهها، تظل “زوايا” واحدة من المساحات القليلة التي تجمع بين الفن، الثقافة، والحرية في دمشق، محافظة على دورها كمركز ثقافي يرفض التقييد والرقابة، وسط مستقبل غير محسوم لمصيرها.