في خضم التحولات السياسية والاقتصادية التي تعيشها سوريا، يثار التساؤل: هل تستطيع البلاد تجاوز أعباء العقوبات الدولية والانطلاق نحو مرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية؟ وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وفي كلمته خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، أشار إلى أن العقوبات تمثل العقبة الأكبر أمام إعادة بناء سوريا، داعياً إلى رفعها كخطوة أساسية لتحقيق الانتعاش الاقتصادي. لكن، هل يكفي رفع العقوبات وحده؟
وجاءت تصريحات الشيباني، في دافوس، لتثير اهتمام المجتمع الدولي، باعتبارها تعبيراً عن التوجهات الجديدة للحكومة السورية في مسعى لاستعادة مكانتها الإقليمية والدولية.
العقوبات: العائق الأكبر أمام الاستقرار والتنمية
في بداية تصريحاته، شدد الشيباني على أن العقوبات المفروضة على سوريا تمثل أحد أكبر العوائق أمام استقرار البلاد وازدهارها الاقتصادي. وذكر أن هذه العقوبات، التي كانت تهدف إلى الضغط على النظام السوري السابق، أصبح لها تأثير عكسي على الشعب السوري اليوم.
وفي تعليقه على هذا التصريح، قال الخبير المالي والاقتصادي ناجح العبيدي، الذي يقيم في برلين: “إن العقوبات المفروضة على سوريا أصبحت بمثابة عبء ثقيل على الاقتصاد السوري، وقد أثرت بشكل كبير على القدرة الشرائية للمواطنين وعلى استقرار العملة الوطنية. ومع ذلك، لا يمكننا أن نتجاهل أن رفع العقوبات وحده لا يكفي؛ يجب أن يترافق مع إصلاحات جوهرية في السياسة النقدية والاقتصاد الكلي. أول خطوة يجب أن تكون إصلاح البنك المركزي السوري، وإعادة تأهيله ليصبح مؤسسة مستقلة تمامًا عن الحكومة ووزارة المالية”.
وشدد العبيدي في حديث لـ”963+” على أن “إصلاح النظام النقدي من شأنه أن يعزز ثقة الأسواق في الليرة السورية ويحفز الاستثمارات الأجنبية، وهو ما يتماشى مع رؤية الشيباني بشأن رفع العقوبات كشرط أساسي للاستقرار الاقتصادي”.
اقرأ أيضاً: الشيباني: سوريا ستفتح اقتصادها أمام الاستثمار الأجنبي – 963+
رسائل تطمينية للشعب السوري
التوجه الداخلي للحكومة السورية أيضاً كان حاضراً بقوة في تصريحات الشيباني. فقد تحدث الوزير عن تحسن الوضع الأمني في البلاد، مؤكداً أن سوريا لن تشهد حرباً أهلية أو طائفية.
وكانت تصريحات الشيباني بشأن حقوق المرأة في سوريا جزءاً من هذه الرسائل التطمينية، حيث أكد على احترام حقوق المرأة وإشراكها الكامل في الحياة السياسية والاقتصادية. في هذا السياق، تم تسليط الضوء على تعيين ميساء صابرين كأول امرأة تتولى منصب قيادة “مصرف سوريا المركزي”، وهو ما اعتبره العديد من المحللين خطوة هامة نحو الإصلاح.
وفي معرض تعليقه على هذه الرسائل، قال العبيدي: “من المؤكد أن تعزيز حقوق المرأة ودورها في الحياة الاقتصادية والسياسية يعد خطوة إيجابية نحو إصلاح بنية الدولة السورية. ومع ذلك، فإن الوضع الاقتصادي يبقى التحدي الأكبر. يجب أن يكون التركيز على إصلاح المؤسسات الاقتصادية، مثل قطاع البنوك، وأن يتم دمج المرأة في عملية الإصلاح الاقتصادي بشكل فعال من خلال خلق فرص عمل جديدة وزيادة مشاركتها في القطاعات الإنتاجية”.
اقرأ أيضاً: المصرف المركزي يجمّد أصول مرتبطين بالنظام السوري المخلوع – 963+
الانفتاح الاقتصادي: تعزيز الاستثمارات الأجنبية
على الصعيد الاقتصادي، شدد الشيباني على التزام الحكومة السورية بفتح أبواب الاقتصاد أمام الاستثمارات الأجنبية، مشيراً إلى أن هناك فرصاً كبيرة في قطاعات متنوعة مثل الطاقة، الكهرباء، الصناعة، والسياحة.
وتطرق الوزير إلى خطط الحكومة لخصخصة بعض الشركات الحكومية الخاسرة، مؤكداً على أن تحسين بيئة الاستثمار وتطوير التشريعات الاقتصادية سيكونان في صلب استراتيجيات الحكومة السورية القادمة. وفيما يتعلق بقطاع الكهرباء، ذكر أن قطر قد تعهدت بتزويد سوريا بـ 200 ميجاوات من الكهرباء، مع إمكانية زيادة الكمية في المستقبل.
وفي تحليل هذه التصريحات، قال العبيدي: “إن سوريا بحاجة ماسة إلى فتح أبوابها للاستثمار الأجنبي، خصوصاً في قطاعات حيوية مثل الطاقة والصناعة. لكن الأهم من ذلك هو خلق بيئة قانونية مستقرة تشجع المستثمرين على القدوم. الخصخصة قد تكون خطوة جيدة، لكنها يجب أن تتم وفقاً لخطة مدروسة تضمن تحقيق الفائدة للشعب السوري وتجنب المزيد من التدهور في القطاع العام”.
وأضاف الخبير المالي والاقتصادي، أن “أي سياسة اقتصادية جديدة يجب أن تهدف إلى القضاء على التشوهات السعرية، وتقليص الدعم الحكومي بشكل تدريجي، وزيادة الدخل المحلي لتحفيز الطلب الداخلي الذي يشكل عاملًا رئيسيًا في النمو الاقتصادي”.
رسائل للخارج: التزام بالسلام والاستقرار
فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية، أكد الشيباني التزام سوريا بالسلام والاستقرار في المنطقة، مشيراً إلى أن سوريا لا تشكل تهديدًا لجيرانها أو أي دولة في العالم. ولفت الوزير إلى أن لجنة من الخبراء تعمل حالياً على صياغة دستور جديد للبلاد عبر حوار وطني شامل يضمن تمثيل جميع مكونات المجتمع، في خطوة يعبر من خلالها عن رغبة الحكومة السورية في الانتقال إلى مرحلة جديدة من التفاهم الوطني.
وفي رد على هذا التصريح، أوضح العبيدي: “أن الالتزام بالاستقرار الإقليمي يعتبر خطوة هامة نحو بناء ثقة مع المجتمع الدولي. ومع ذلك، فإن الاستقرار الداخلي يبدأ من الإصلاحات الاقتصادية، التي يجب أن تواكب عملية البناء السياسي. إن الانتقال إلى مرحلة دستور جديد وانتخابات حرة سيشكل علامة فارقة، لكنه يتطلب أيضًا جلب الدعم الدولي، خصوصًا من مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي”.
وأوضح الشيباني أن الحكومة السورية قد شرعت في استعادة علاقاتها مع دول الجوار، حيث قام بزيارات لعدد من دول الخليج مثل السعودية والإمارات وقطر. وتحدث عن رغبة الحكومة السورية في بناء علاقات إيجابية مع هذه الدول،
وقال العبيدي: “إعادة العلاقات مع دول الجوار، خصوصاً الخليجية منها، ستكون لها انعكاسات إيجابية على الاقتصاد السوري. لكن هذه العلاقات يجب أن ترتكز على مشاريع اقتصادية حقيقية وتعاون استثماري مشترك. من دون استثمارات حقيقية في قطاعات حيوية مثل الطاقة والبنية التحتية، ستكون هذه العلاقات رمزية فقط”.
اقرأ أيضاً: الثانية… محكمة فرنسية تصدر مذكرة قضائية لاعتقال بشار الأسد – 963+
الديون المستحقة: التحدي المالي أمام الحكومة السورية
من جهة أخرى، أشار الشيباني إلى أن الحكومة السورية تواجه تحدياً كبيراً في مسألة الديون التي خلفها النظام السوري السابق، والتي تقدر بحوالي 30 مليار دولار لإيران وروسيا. وشرح أن هذه الديون تشكل “ديوناً كريهة” وفقاً للقانون الدولي، ويمكن للحكومة الجديدة الامتناع عن سدادها بناءً على أن هذه الأموال مُنحت لنظام كان في نزاع مسلح مع شعبه.
وفي تعليق له على هذه النقطة، قال العبيدي: “الديون المستحقة لإيران وروسيا تمثل تحدياً كبيراً في سياق الإصلاحات الاقتصادية. لكن الحكومة السورية يجب أن تتحلى بالشجاعة في التفاوض مع هاتين الدولتين حول إعادة هيكلة هذه الديون، بل والتفاوض على إعفاء جزء منها وتأجيل سدادها. وإذا نجحت سوريا في هذه المفاوضات، فإن ذلك سيخفف من العبء المالي عليها ويساهم في توفير مزيد من الموارد للاقتصاد”.
وتمثل تصريحات وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وكذلك التحليلات الاقتصادية للخبير ناجح العبيدي، مؤشرات هامة على أن سوريا تسعى لفتح صفحة جديدة في تاريخها، تستند إلى إصلاحات سياسية واقتصادية تهدف إلى تحقيق الاستقرار والتنمية في البلاد.