شهدت نهاية العام الماضي تغييرات جذرية في المشهد السياسي السوري مع سقوط نظام بشار الأسد، مما فتح المجال أمام فرص جديدة لإعادة تشكيل الديناميات الجيوسياسية والإقليمية. إحدى أبرز هذه الفرص تتجسد في قطاع الطاقة، وخاصة مشاريع خطوط الغاز الطبيعي في شرق المتوسط. تُعد سوريا بموقعها الجغرافي على البحر المتوسط دولة عبور استراتيجية محتملة لخطوط الغاز نحو الأسواق الأوروبية، ويأتي مشروع خط الغاز القطري التركي على رأس تلك المشاريع ذات الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية.
أهمية المشروع اقتصادياً وجيوسياسياً
يهدف مشروع خط الغاز القطري التركي إلى نقل الغاز الطبيعي من حقل الشمال القطري عبر الأراضي السورية إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا. في حال تنفيذه، يمكن أن يحقق المشروع مكاسب كبيرة لدولة قطر من خلال تعزيز مكانتها كمصدر رئيسي للطاقة في العالم.
وبالنسبة لسوريا، يمثل المشروع فرصة لإعادة تفعيل اقتصادها من خلال الاستفادة من عائدات رسوم العبور، بالإضافة إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية. هذه الاستثمارات يمكن أن تساهم في تسريع وتيرة إعادة الإعمار وتحسين العلاقات الدولية لسوريا مع دول الخليج وأوروبا، خاصة في سياق ما بعد الحرب.
علاوة على ذلك، فإن للمشروع أهمية استراتيجية لأوروبا التي تسعى لتنويع مصادرها من الطاقة وتقليل اعتمادها على الغاز الروسي. ومن شأن المشروع أيضاً أن يعزز من قدرة تركيا على أن تصبح مركزاً محورياً لنقل الطاقة بين الشرق والغرب.
التحديات والصعوبات
مع ذلك، يواجه المشروع سلسلة من التحديات التي تعيق تنفيذه. أولاً، التوترات الجيوسياسية الإقليمية، حيث تتداخل مصالح دول مثل إيران وروسيا وتركيا في المنطقة، مما يخلق تنافساً مباشراً على النفوذ والسيطرة على مسارات الطاقة. رغم تراجع النفوذ الروسي والإيراني في سوريا بعد سقوط النظام، إلا أن وجود قواعد عسكرية روسية في طرطوس وبعض الجماعات المرتبطة بإيران يظل عاملاً معيقاً.
ثانياً، الوضع الأمني الداخلي في سوريا الذي يحتاج إلى استقرار سياسي وأمني شامل لجذب الاستثمارات وضمان تنفيذ المشروع. ثالثاً، البنية التحتية المدمرة بفعل الحرب، حيث تتطلب إعادة الإعمار تمويلاً ضخماً وتعاوناً دولياً. وأخيراً، تكلفة المشروع الباهظة، التي تُقدَّر بنحو 20 مليار دولار، ما يجعل تنفيذه مرهوناً بوجود إرادة سياسية ودعم مالي دولي.
وتعود فكرة المشروع إلى العام 2009، حيث نوقشت خلال قمة جمعت رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، وأمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. كان المخطط الأصلي يقضي بإنشاء خط بطول 1500 كيلومتر وبتكلفة أولية تُقدَّر بـ10 مليارات دولار، لنقل الغاز من قطر إلى تركيا عبر سوريا. إلا أن المشروع واجه عقبات سياسية كبيرة، أبرزها الوضع غير المستقر في سوريا ومواقف بعض الدول الإقليمية.
تساؤلات حول الجدوى
يشير أسامة قاضي، الخبير الاقتصادي السوري، إلى تحديات اقتصادية وجيوسياسية تواجه المشروع. ويلفت في حديث لموقع “963+” إلى أن قطر وصلت إلى حد إنتاجها الأقصى من الغاز الطبيعي، مما يثير تساؤلات حول حاجتها لمثل هذا المشروع في ظل وجود بدائل أخرى لنقل الغاز، مثل “السيل التركي” الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا.
ويرى قاضي أن الجدوى الاقتصادية للمشروع بالنسبة لقطر “قد تكون محل شك”، لكنه يعتقد أن سوريا “ستستفيد منه اقتصادياً كدولة عبور، إذ يمكن أن يدر عليها دخل يصل إلى ملياري دولار سنوياً، إضافة إلى تحسين بنيتها التحتية”.
وفي تصريحات نقلتها وكالة “الأناضول”، أكد وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار إمكانية إحياء المشروع، مشيراً إلى أن تحقيقه “يتطلب استقراراً سياسياً وأمنياً في سوريا”.
وأوضح أن تركيا مستعدة لدعم سوريا بالطاقة من خلال بناء خطوط جديدة أو إصلاح القديمة، بالإضافة إلى إمكانية تزويد مناطق سورية بالكهرباء ووقود مولدات الديزل. ويرى الوزير أن المشروع يمكن أن يعود بالنفع على جميع الأطراف، خاصة إذا ما تم الاستفادة من البنية التحتية الحالية لنقل الغاز القطري إلى أوروبا عبر تركيا.
تحديات وفرص جديدة
من جانبه، يرى السياسي والديبلوماسي السوري بشار علي الحاج علي، أن “سقوط نظام الأسد فتح المجال أمام فرص استراتيجية جديدة لسوريا، لا سيما في قطاع الطاقة”.
لكنه يشير في حديثه لـ”963+” إلى تحديات سياسية واقتصادية كبيرة تواجه المشروع، أبرزها “استمرار التوترات الإقليمية وبقاء القوات الروسية في طرطوس”. كما يلفت إلى أن إعادة بناء البنية التحتية السورية تتطلب تمويلاً ضخماً وإزالة العقوبات الدولية.
وعلى الرغم من التحديات، يحمل المشروع العديد من الفوائد الاستراتيجية. بالنسبة لسوريا، يُمكن أن يُسهم المشروع في إنعاش الاقتصاد الوطني من خلال توفير عائدات مالية تُستخدم في إعادة الإعمار وخلق فرص عمل جديدة. كما يعزز مكانتها الإقليمية كجسر للطاقة بين الشرق والغرب، ويوفر لها قوة تفاوضية في المشهد الجيوسياسي.
وبالنسبة لأوروبا، يمثل المشروع خطوة هامة نحو تنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، في ظل استمرار التوترات مع موسكو. كما أن الولايات المتحدة ترى في المشروع فرصة لتعزيز استقلال أوروبا الطاقوي عن روسيا، وتقليص النفوذ الإيراني في سوريا عبر دعم مشاريع طاقة بديلة.
ويرى خبراء اقتصاديون أن مشروع خط الغاز القطري التركي عبر سوريا يُمثل فرصة استراتيجية لسوريا الجديدة لاستعادة دورها كدولة محورية في قطاع الطاقة. إلا أن نجاح المشروع يعتمد على تحقيق استقرار سياسي وأمني شامل، إلى جانب بناء شراكات إقليمية ودولية تدعم إعادة الإعمار. بوجود الإرادة السياسية والدعم الدولي، يمكن لهذا المشروع أن يُسهم في تحقيق نقلة نوعية للاقتصاد السوري وتعزيز مكانة البلاد كجسر للطاقة بين الشرق والغرب.