التحذير من الانجرار إلى العنف والسلاح كان الصوت الأعلى مع انطلاق الثورة السورية. كان الرأي الغالب هو أن من مصلحة نظام الأسد جر الثورة إلى العسكرة لأن العنف هو ملعبه الأثير. مع ذلك تعسكرت الثورة وغلب عليها الطابع الإسلامي، ودخل إلى متنها أبعاد طائفية صريحة، ثم انتهى الأمر بسقوط نظام الأسد، ليس على الطريقة التسووية التي اقترحها مجلس الأمن الدولي بقراراته، والتي واظب نظام الأسد على التهرب منها، بل بطريقة عسكرية جذرية قادت إلى تلاشي النظام في أيام، وكأنه لم يكن، مخلفاً وراءه بلداً محطماً، ومنتصرين.
يقوم الرصيد السياسي الأساسي للمنتصرين على حقيقة أن سقوط النظام جاء على أيديهم، والحال إنه إنجاز كبير يحسب لهم، غير أن هذا الإنجاز هو ثمرة كل ما فعله السوريون للتحرر من نير الأسد. الانهيار العسكري التام لنظام الأسد، سبقه ومهد له انهيار معنوي وسياسي تام، ساهم فيه الجميع، وبوجه خاص من رفضوا الأسد دون أن يحملوا السلاح. بل يمكن القول إن العمل العسكري المضاد للنظام، قد قدم له بعض العون المعنوي والسياسي أمام دول العالم كما أمام جمهوره.
ليس محط خلاف كبير أن الطرق السلمية ما كانت لتسقط نظام الأسد، وإن كان من شأنها أن تراكم وعياً وتقليداً نضالياً مهماً في سياق تفكيك سيطرته، هذا هو الرهان الأساس للداعين إلى السلمية. بالمقابل، ورغم ما انتهى إليه الحال في سوريا من سقوط درامي للنظام على يد قوى عسكرية، لم يكن التحول إلى العمل العسكري المعارض سبيلاً مضموناً للخلاص من طغمة الأسد، ولكنه كان، كما توقعنا وشهدنا، سبيلاً مضموناً إلى دمار وموت هائل، عاشته سوريا، ولم تشهد شبيها له في تاريخها المعروف. كان ذلك بسبب ما أظهره النظام من استعدادات تدميرية كولونيالية الطابع، بما فيها من تفارق عن الوطنية ومن انعدام حس تجاه البلد المُحتَل. يضاف إلى ذلك أن السبيل العسكري أحيا عصبيات وضغائن طائفية وعرقية تحتاج إلى أن يتحلى أصحاب القرار في المرحلة الحرجة التالية لسقوط النظام، بسعة أفق وطنية وبحكمة سياسية لتفادي انفلاتها.
في كل حال، سارت الأمور بحيث ظهر أن المنتصرين الذين سبق اعتبارهم ثورة مضادة، وسبق النظر إليهم على أنهم صنيعة لنظام الأسد وداعميه، فقد رأى كثيرون أنهم شكلوا طوق نجاة لنظام الأسد، ليس فقط لأنهم اعتمدوا السبيل العسكري، الذي حطم الثورة، بل أيضاً لأنهم إسلاميين مرفوضين من غير المسلمين السنة ومن قطاع واسع من هؤلاء، ومرفوضين من الغرب الذي يحكم العالم، ومصنفين على لوائح الإرهاب الغربية، ، نقول سارت الأمور بما جعل هؤلاء هم من وضعوا النقطة الأخيرة في قصة النظام، وجلبوا الفرحة للشعب السوري، الفرحة التي كانت من الاتساع بحيث تغطي اليوم على كل شيء.
بقليل من التدقيق نرى أن ما جرى لا يلغي وجاهة الاعتبارات السابقة. العوامل التي أفضت إلى المفاجأة السارة بتلاشي نظام الأسد، كانت خارجية إلى حد كبير، تماماً كالعوامل التي جعلت هذا النظام يستمر أكثر من 13 عاماً بعد اندلاع الثورة. لم تكن الأفضلية السياسية هي المحدد الأساسي لمسار الأحداث. يجب أن لا يغيب عن بالنا أن القوات التي دخلت دمشق على أشلاء نظام الأسد، لها تجربة في الحكم أيضاً، وأنها لم تقدم نموذج حكم يُحتذى، ولم يكن محكوموها في الحال الذي يطمح إليه عموم السوريين.
الرصيد الكبير الذي كسبته القوات التي وجهت الضربة القاضية لنظام الأسد، يأتي، بصورة أساسية، ونكاد نقول فقط، من الفظاعات التي ارتكبها نظام الأسد، ومن هول ما أقدم عليه بحثاً عن النجاة والاستمرار، حتى أصبح ليس فقط عالة على البلد وعلى مؤيديه ومعارضيه معاً، بل أصبح عاراً على الجميع، تنال القوات التي تزيله مجداً، مهما تكن. وتجلى الرصيد الذي حصدته القوات المنتصرة، في الامتنان الشعبي الواسع لها، من الجمهور الذي كان موالياً كما من الجمهور المعارض، الامتنان الذي شمل الجميع من كل الفئات وكل المستويات، حتى يصعب عليك أن ترى من يتلكأ في التعبير عن فرحته، بمن في ذلك من كانوا أقرب المقربين من النظام، ومن كانوا أكثر الخائفين من الإسلاميين. وإن كانت هذه الفرحة مقرونة بقلق وحذر لدى كثيرين، ليس فقط من الأقليات القومية والمذهبية، ولاسيما العلويين، بل أيضاً من قطاع كبير من المسلمين السنة الذين يتخوفون من الطبيعة الفكرية والسياسية لهذه القوات، ومن ضعف انفتاحها على العصر، وما تبدي من استعداد عدائي للعالم.
تنفتح اليوم في سورية صفحة صراع جديد طرفاها القوى الإسلامية المنتصرة من جهة، والقوى غير الإسلامية الساعية إلى المشاركة السياسية وإلى الانفتاح على العالم المتحضر وقيمه العامة. الصراع بين من ينظر إلى إسقاط النظام على أنه انتصار الثورة، ومن ينظر إليه على أنه بداية لبناء أو تحقيق انتصار الثورة. دون أن يلغي ذلك احتمالات بروز صراعات بين القوى والفصائل التي تشاركت في إسقاط النظام، مع بروز تعقيدات بناء الدولة وتفجر الصراعات على تحديد المرجعيات والأدوار. ومن شأن الصراع العام ضد ما سيبديه الإسلاميون من نزعة لأسلمة الدولة والمجال العام، أن يؤجج الصراعات الداخلية بين الفصائل الإسلامية نفسها.
ما عاشته سورية هو انقسام الصراع إلى مرحلتين، المرحلة الأولى هي إسقاط النظام عسكرياً، المهمة التي اضطلعت بها قوى إسلامية، ذلك لأن هذه القوى تتوفر على العصبية الجامعة والإرادة القتالية والدعم الخارجي. غير أن التوقف عند هذه المرحلة يبقى مقطوع الصلة بتطلعات السوريين الذين أطلقوا الثورة، والذين تقتضي تطلعاتهم البدء بمرحلة ثانية تضطلع بها القوى المدنية ضد القوى الإسلامية نفسها، في صراع سلمي لتحديد الدستور وشكل الدولة والنظام السياسي، للخروج بسورية من كونها جمهورية بالاسم إلى كونها جمهورية بالفعل. عندها يمكن القول إن الثورة انتصرت.