بعد ساعات قليلة على نفي السلطات اللبنانية أن أي مطلوب سوري قد وطأ أراضيها، ظهر اسم علي مملوك، أحد أهم مستشاري الرئيس السوري المخلوع، على أنه مرّ عبر مطار بيروت متوجهاً إلى العراق.
ليس مملوك مسؤولاً سورياً مهماً وحسب، بل هو مطلوب من السلطات القضائية اللبنانية بتهمة تفجير مسجدين في مدينة طرابلس عام 2013. تبع الرجل كذلك مرور المستشارة الإعلامية لبشار الأسد، بثينة شعبان، وهروبها عبر مطار بيروت. كذلك الأمر، يمكث في لبنان حالياً ابن علي مملوك، نزهت، كما عشرات المسؤولين السوريين السابقين، المدنيين والعسكريين، وخاصة في فنادق وسط مدينة بيروت المناسبة جداً للتخفي والاستجمام في آن.
بدت السلطات اللبنانية حائرة في التعامل مع فلول النظام السوري السابق. لا هي قادرة على توقيفهم، ولا هي تريد تسليمهم إلى الإدارة السورية الجديدة وتحمّل تبعات ذلك. ليست السلطات اللبنانية بألف خير أصلاً، إذ هي تعاني من نقص في عديدها وتجهيزاتها، كما من غياب للقرار السياسي لتوجيهها بشكل صحيح وواضح.
هذا الضعف الظاهر كان جلياً في اليوم التالي لهروب الأسد، حيث أدخل الأمن العام اللبناني على معابر الحدود الشرعية مئات من السوريين الموالين للنظام من دون أن يكون لديهم أوراق صالحة. فيما سيرتب كل ذلك تبعات جمّة على لبنان، دولة وشعباً، طالما يتناقض هذا الأمر مع توجّهات الإدارة السورية الجديدة.
ما الذي يمنع مثلاً أن تقوم هذه الإدارة بطلب استرجاع هؤلاء المسؤولين، فيقع لبنان في دوامة معاداة النظام السوري الجديد؟ ألم يكن من الأفضل التنسيق السريع مع الإدارة الجديدة بشأن هؤلاء، ورفع مسؤولية تحمل قدومهم إلى لبنان؟ وما المانع أصلاً من أن تقوم الإدارة الجديدة في سوريا بالتوغل داخل الأراضي اللبنانية والضغط على السلطات اللبنانية لتسليمها مجرمي الحرب المختبئين عندها؟.
في ظل هذه الظروف المتغيّرة، يبدو لبنان في موقع لا يُحسد عليه. فالأزمة السياسية الداخلية والتجاذبات الإقليمية تضعه، كما دائماً، أمام خيارات صعبة ومعقدة. كيف يمكن للبنان أن يحمي سيادته ويصون علاقاته مع الجوار في آنٍ معاً؟ هذا السؤال يُثقل كاهل المسؤولين اللبنانيين، وهم الذين يفتقدون وحدة القرار وحسم الرؤية في التعامل مع الملف السوري. كل ذلك، ولا سلطة جدية وفعلية في لبنان، حيث الحكومة هي لتصريف الأعمال، ولا أحد يشغل منصب رئاسة الجمهورية، فيما القوة الأكبر فيه، “حزب الله”، لا يعرف أحد في الداخل اللبناني كيفية التعامل معها ومع وضعها الجديد.
وفي حال استقراره، قد يُمارس النظام السوري الجديد ضغوطاً سياسية ودبلوماسية على لبنان لاستعادة مسؤوليه الفارّين، وهو أمر قد يؤدي إلى توتر شديد بين البلدين، أو ربما إلى مواجهات مباشرة على الحدود، إذا ما لجأ النظام الجديد إلى خيارات عسكرية محدودة لفرض هيبته وإرادته. من جهة أخرى، أي تهاون لبناني في التعامل مع هذه الملفات قد يُفسر على أنه استضافة لمجرمي الحرب أو حماية ضمنية لهم، ما سيضع لبنان أمام سوريا والمجتمع الدولي كدولة متراخية تجاه العدالة.
من الناحية الإنسانية والأمنية، فإن بقاء هؤلاء المسؤولين داخل لبنان يشكل خطراً إضافياً. فهم لا يمثلون مجرد هاربين سياسيين، بل هم متهمون بقضايا إرهابية وجرائم حرب وارتكاب مجازر، وقد يتسبب وجودهم بخلق بؤر توتر جديدة داخل المجتمع اللبناني، أو بإشعال أعمال انتقامية من قبل اللاجئين السوريين والجماعات اللبنانية المحلية المتضررة من ممارسات النظام السوري السابق.
في ظل هذا المشهد، تبدو الحاجة مُلحّة إلى استراتيجية لبنانية واضحة للتعامل مع هذه القضية الحساسة. من أولى الخطوات، ينبغي فتح حوار جدي وسريع مع الإدارة السورية الجديدة، لضمان تسوية هذا الملف وفق القوانين والشرعية الدولية. كما ينبغي على لبنان تعزيز مراقبة حدوده لمنع أي خروقات إضافية قد تزيد من تعقيد الأزمة، وهذا الأمر فيه مصلحة لبنانية وسورية في آن.
إنّ تجاهل هذا الملف أو التعامل معه ببطء سيؤدي بلا شك إلى تداعيات خطيرة على أمن لبنان واستقراره. فالتاريخ أثبت أن التخاذل أمام الأزمات الإقليمية لا يجلب إلا المزيد من الأزمات الداخلية. يبقى السؤال: هل تملك السلطات اللبنانية القدرة والإرادة السياسية لتجاوز هذا التحدي، أم أنها لا تجيد فعلاً القيام بأي شيء مفيد للبنان وشعبه؟
من ناحية أخرى، يبدو أن لبنان أمام فرصة ذهبية لإعادة صياغة علاقته مع سوريا في ظل الإدارة الجديدة. فبعد سنوات من السطوة السورية على القرار اللبناني، تلوح إمكانية التعاون مع سلطة ناشئة في دولة جارة يجمعها معها الكثير وتسعى لإعادة بناء مؤسساتها واستعادة قوتها. هذا التحوّل يُمكن أن يُشكّل مدخلاً إيجابياً للبنان لتحقيق مصالحه على أكثر من مستوى، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والأمني.
التنسيق المبكر مع الإدارة السورية الجديدة قد يتيح للبنان فرصة للمشاركة في عملية إعادة الإعمار في سوريا، وهو ما يمكن أن ينعش القطاعات الاقتصادية اللبنانية التي تعاني من الركود. كما أن التعاون الأمني في ملف المطلوبين سيعزز من الثقة بين البلدين ويضمن عدم تحوّل لبنان إلى ساحة لتصفية الحسابات القديمة أو ملجأ للمطلوبين والمتورطين بارتكاب جرائم في سوريا. إن أمن سوريا من أمن لبنان والعكس صحيح أيضاً، هكذا يعلّم التاريخ عند كل مفترق. معاداة سوريا لا تفيد أمن لبنان، تماماً كما أن الذوبان في سوريا يقوّض سيادته.
بالإضافة إلى ذلك، فإن فتح صفحة جديدة في العلاقات مع الجارة سوريا سيسهم في تخفيف التوترات الحدودية وضبط تدفق اللاجئين بطريقة منظمة وإنسانية، ما يُخفّف من العبء الكبير الذي تحمّله لبنان على مدى السنوات الماضية.
هذه اللحظة قد تكون نقطة تحوّل حقيقية في تاريخ العلاقات اللبنانية – السورية. ولكن اغتنام هذه الفرصة يتطلّب من لبنان قيادة سياسية واعية وقادرة على اتخاذ قرارات جريئة تصب في مصلحة الدولة والشعب اللبناني. فالتأخر أو التردد في التعامل مع هذا الملف قد يُفقد لبنان فرصة نادرة لإعادة التموضع إقليمياً وبناء شراكة استراتيجية مع دولة جارة تسعى بدورها لترميم علاقاتها الخارجية واكتساب شرعية من دول العالم.