أعلن الكرملين منتصف الشهر الحالي كانون الأول/ ديسمبر، أن مصير القواعد العسكرية الروسية في سوريا، لا يزال قيد النقاش، مشيراً إلى أن الاتصالات مع المسؤولين السوريين قائمة ومستمرة من دون نهايات واضحة ومحددة. وأكدت الخارجية الروسية، أن السفارة الروسية في دمشق تعمل كالمعتاد، وأن السفير ألكسندر يفيموف لا يزال موجوداً في العاصمة السورية.
ونقلت وكالة “رويترز” عن أربعة مسؤولين سوريين، أن روسيا بدأت بسحب قواتها من خطوط المواجهة في شمالي سوريا، ومن مواقع في جبال العلويين. غير أنها لم تنسحب من قاعدتيها الأساسيتين قاعدة في اللاذقية وطرطوس البحرية.
سابقاً قال الكرملين، إن ضمان أمن القواعد العسكرية الروسية والبعثات الديبلوماسية في سوريا “ذو أهمية قصوى”، مشيراً إلى أن موسكو حافظت على الاتصال بالقيادة الجديدة في دمشق. بينما رفض المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف تقديم تفاصيل حول عدد القوات الروسية الموجودة في سوريا أو حالة عمليات الإجلاء المحتملة. هذا وتظهر صور الأقمار الصناعية أن روسيا بدأت في سحب قواتها من سوريا، وأن مباحثات موسكو في التفاوض على صفقة مع القيادة السورية الجديدة ما زالت قيد النقاش.
إذاً، ثمة سباق طويل وممتد ينبغي على روسيا وتركيا والسلطة الجديدة في دمشق أن ينخرطوا من خلاله في تفاوض معقد ومليء بالتناقضات المركبة، حول كيفية التعامل مع النفوذ الروسي في سوريا، والذي تموضع في البلاد طيلة سنوات طويلة مضت. بيد أنه من المهم أيضاً صعوبة أن يمنح أحمد الشراع الملقب بالجولاني امتيازات طويلة المدى لموسكو، وتجاهل الرؤية الأميركية، مما يعني أن الجميع سيعمل على مقاربة تفاوضية وصفقة متعددة الأطراف، والأرجح أن تكون ذا مدى متوسط زمنياً، تسمح بتعميق التناقض بين المصالح الروسية الإيرانية التركية.
تفاوض معقد
رجحت مصادر روسية في الوقت الحالي، أن هناك خطة واضحة لروسيا نحو ضمان البقاء في سوريا، والتعاون مع الحكومة الجديدة ودعم التغيير السياسي لعدم خسارة القواعد العسكرية في سوريا والتواجد عبر الموانئ في الساحل السوري.
وتابعت المصادر التي تحدثت لـ”963+”، أن هذا الأمر مسألة مهمة استراتيجياً لروسيا في البحر الأبيض المتوسط، وهي تعكس استراتيجية الحفاظ على القواعد العسكرية خاصة الموجودة على البحر المتوسط. وأكدت المصادر ذاتها، أن خروج روسيا من سوريا أمر له تأثير كبير كونه يشي بضعف النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، ولن يكون هناك توازن بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
ورجحت المصادر، أن روسيا ستتفاهم مع الحكومة الجديدة في سوريا لإيجاد حلول لهذه المسألة والاحتفاظ بقواعدها ومصالحها، وذلك على خلفية أن هناك اتفاقية مدتها أكثر من خمسين سنة بين روسيا والنظام السابق. ولكن حتى الآن ليس واضحاً مصير هذه الاتفاقيات، وهل يمكن أن تعمل في ظل النظام الجديد. وهل يمكن تمديدها؟
من جانبه يشبر الكاتب والمحلل السياسي بركات قار، أن مسألة العلاقات بين تركيا وروسيا لا زالت قائمة، وستبقى حاضرة لفترة معينة، وهذه لا تنحصر فقط في مسألة سوريا. يستطرد بركات قار في حديثه لـ”963+” قائلاً إن العلاقات بين أنقرة وموسكو، لها تشعبات عديدة تمتد وتتصل في كل المنطقة، فضلاً عن العلاقات الثنائية بين البلدين، “الأمر الذي يدفعنا نحو عدم ترجيح عدم اتخاذ روسيا موقفاً متطرفاً تجاه تركيا أو تدخل في موجة صراع بهذا الظرف، لا سيما وأن بوتين يدرك وجود تركيا بحلف الناتو”.
كما لا ينبغي تجاهل أن الطرفين يرتبطان بمسألة الطاقة والمؤسسات النووية والعلاقات التجارية، لذلك ورغم خلافاتهم في بعض الملفات وحول بعض القضايا، لكن تقع مواقف متشددة فيما بينهما.
لذلك، والحديث للمصرح ذاته، “تركيا -بتقديري- ستكون وسيطاً عند هيئة تحرير الشام وعند بعض القوى الموجودة استناداً لكونها اللاعب الأساسي الآن في سوريا، مما يدفعها لممارسة هذا الدور من خلال عدم نقل المواقع الروسية من سوريا”.
سيناريوهات محتملة
ويلفت المحلل السياسي بركات قار، إلى أن روسيا حالياً بحاجة لهذا الأمر. وستحاول مع تركيا أكثر مما تحاول مع السلطة الجديدة في سوريا “هيئة تحرير الشام”، بغية البقاء حتى لو كان رمزياً من خلال الوجود في حميميم وطرطوس.
ويضيف: “ثمة عامل دولي آخر لا ينبغي تجاهله هو إسرائيل وأميركا وبريطانيا، إذ إن هذه الدول هي التي من خلال المفاوضات مع تركيا، ستقرر بقاء القواعد الروسية من عدمها وفي تقديري أميركا من المحتمل أن تشجع تركيا وتبعث لها بالإغراءات ببعض الاتفاقيات كي تدير ضهرها لروسيا وتعمل نحو ترحيل روسيا من سوريا”.
غير أنه يلفت قائلاً إن “هذا السيناريو غير مرجح استناداً للعلاقات الثنائية ولطبيعة الظروف الإقليمية، مما يمكننا معه تصور أن روسيا ستستمر في سوريا خلال أفق منظور”.
يشار إلى أن روسيا تمتلك قاعدتين عسكريتين في سوريا هما المركز اللوجستي للبحرية الروسية في طرطوس، حيث أنشأت القاعدة السوفيتية في طرطوس عام 1971 بموجب اتفاقية ثنائية وقاعدة حميميم الجوية الواقعة على بعد نحو 20 كلم جنوب شرقي اللاذقية، والتي تأسست في الثلاثين من أيلول/ سبتمبر من العام 2015 لتنفيذ عملية عسكرية بهدف دعم قوات النظام السابق.
ونحو ذلك قال اللواء دكتور سيد غنيم الأستاذ الزائر بالناتو والأكاديمية العسكرية ببروكسل، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلب تحقيقاً عن فشل استخباراته في كشف التهديد الذي أطاح بالرئيس السوري المخلوع.
وأضاف اللواء سيد غنيم زميل الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية لـ”963+”، أن “روسيا بدت تقترب من التوصل إلى اتفاق مع القيادة السورية الجديدة للاحتفاظ بقاعدتين، إلا أن هناك ما قد يعرقل ذلك”.
بين الربح والخسارة
وتابع قائلاً إنه “ما بين الربح والخسارة، تتأثر الدول الأوروبية بما يحدث في سوريا، وما يؤثر على مصالحها في المنطقة، خاصة مع الاتساع التدريجي لبؤرة الصراع في المنطقة”. كما أن للانعكاس الدولي على العداء الأوروبي الروسي أهمية أيضاً، حيث قد يكون من الأفضل للدول الأوروبية، خاصة دول جنوب أوروبا، أن تفضل بقاء التواجد الروسي في سوريا، لعدم لجوء روسيا لإعادة تمركز قواتها في ليبيا.
ونظراً لأن الضعف الروسي الذي اتضح جلياً في سوريا وانكشاف عدم قدرتها على حماية النظام السوري السابق، سيكون له شديد الأثر على زعماء دول إفريقية نفذت انقلابات عسكرية في بلادها وتحتمي بالدولة الروسية مثل بوركينا فاسو ومال والنيجر وتشاد، خاصة وأن عدم التواجد العسكري الروسي الدائم في سوريا أو ليبيا يزيد من مخاطر تهديد تلك الأنظمة الأفريقية المحمية بروسيا، وأن روسيا قد حلت محل النفوذ الفرنسي فيها، إلا أن فرنسا لن تقبل بأي شكل من الأشكال استمرار تواجد القوات الروسية في أي دولة في المنطقة، بشكل عام، وفي البحر المتوسط (سوريا وليبيا)، وفي البحر الأحمر (السودان) بشكل خاص.
من جانب آخر، يرى اللواء دكتور سيد غنيم، أنه قد “تضطر قوى دولية لمحاولة ملء الفراغ الروسي، سواء استطاعت روسيا الحفاظ على قواعدها البحرية في سوريا أم لا، وعلى الرغم من التواجد العسكري الأميركي شرقي سوريا، إلا أنه لا يتوقع أنها تستهدف توسيع نفوذها هناك. ولكن يتوقع أن تكون فرنسا المبادرة في ملء هذا الفراغ، كمنطقة نفوذ تاريخي لها، إلى جانب أنه سيكون رداً على التحرك الروسي ضدها في جنوب الصحراء الأفريقية. كما يتوقع أن تعمل ألمانيا في تعميق تواصلها المخابراتي/ الأمني في سوريا، نظراً لوجود جالية سورية كبيرة في بلادها”.