جاءت لحظة سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد بعد قرابة نصف قرن من حكم حزب البعث، لتضع حداً فاصلاً في تاريخ العلاقات الوظيفية بين الدول واستثمار ترنح الأنظمة، وهشاشة الدول في الحروب بالوكالة وصراع النفوذ والهيمنة.
سقطت سوريا في هوة النفوذ الخارجي خلال السنوات الفائتة، وتلقفتها روسيا وإيران. وللدقة أعادت تمظهر “الأسد” الابن للحكم. ومن خلال ذلك منح الأخير بلاده لنظام طهران، وأضحت مقدمة المشروع الإيراني في المنطقة. بيد أن الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وضع حداً فاصلاً لذلك النفوذ وتلك الهيمنة. كما أنه يثير عديد التساؤلات حول مصير تلك الاستثمارات ومن عليه العمل لملء ذلك الفراغ.
إعادة تموضع القوى الإقليمية في سوريا بعد سقوط الأسد
تركيا وإيران وروسيا ثلاث دول كان لهم نصيب بارز ولافت في مسار الحرب السورية حتى سقوط النظام، وفيه رائحة الأولى، بينما الثانية تحديداً تعول على التناقضات وتفاعلات المصالح لالتقاط خيط النفوذ ونفخ الحياه فيه من جديد. هذا وقد نسبت وكالة “رويترز” إلى مسؤول إيراني كبير أن طهران فتحت قناة مباشرة للتواصل مع فصائل في القيادة الجديدة في سوريا. وأضاف أن هذا يمثل محاولة “لمنع مسار عدائي” بين البلدين.
تبصر إيران حجم الضربة التي تعرضت لها خلال الشهور الأخيرة وتوجت بفقدان حليفها الأبرز في سوريا، مما يعد تحدياً آخر لمشروعها السياسي والمذهبي في الشرق الأوسط، الأمر الذي سيدفعها للبحث عن ملاذات أخرى نحو الحضور في سوريا والبحث عن مسار وقف نزيف نفوذها في المنطقة.
في هذا السياق يذهب المفكر السياسي وعضو مجلس الشيوخ بمصر الدكتور عبد المنعم سعيد بقوله إنه ينبغي الانتباه أولاً لدلالة مشهد خروج بشار الأسد وتبعات ذلك على الداخل السوري.
التحديات أمام السلطة الجديدة في سوريا وأهمية الدعم العربي
يضيف عضو مجلس الشيوخ المصري لموقع “963+”: “علمتنا تجارب السياسة والتاريخ أن محددات الحركة في الداخل تصنع إلى حد كبير توجهات السياسة ومن هنا ينبغي على أصحاب السلطة الجديدة مراكمة الثقة وحشد كافة عناصرها حتى يتبين للجميع ماهية الخطوة التالية”.
ويؤكد سعيد رئيس اللجنة الاستشارية “للمجلس المصري للدراسات الاستراتيجية”، في حديث لـ”963+” أن القاهرة تحديداً والدول العربية تأمل جيداً في عودة سوريا للمجال العربي، ويحسم الأمر بكون نجاح السلطة الجديدة في عبور المرحلة الانتقالية وتأسيس دولة التنوع والديمقراطية سيضع الحواجز الكفيلة لعدم استخدام سوريا مرة أخرى لأي قوة خارجية.
وهنا ينبغي التأكيد على خطورة الهجمات التي نفذتها إسرائيل خلال الأيام التالية، لسقوط الأسد الابن، وهو ما دعا القاهرة لإصدار بيان عاجل بهذا الشأن، حيث أدانت وزارة الخارجية المصرية دخول قوات إسرائيلية إلى المنطقة الحدودية التي تفصل مرتفعات الجولان المحتلة عن بقية سوريا للمرة الأولى منذ خمسة عقود.
يختتم الدكتور عبدالمنعم سعيد حديثه لـ”963+” بقوله إن “الوضع في سوريا ما زال يحتاج لبعض الوقت، وبالأحري لكثير من البصيرة السياسية التي تمنحنا رؤية كافية للمجال العام وضوابطه وربما الشهور القليلة المقبلة ستكشف عن ماهية الخطوة التالية”.
ويقينا كان فشل نظام الأسد الابن في معالجة الأوضاع الداخلية ببلاده خلال السنوات الأخيرة، هي الجسر التي مرت من خلاله القوى الخارجية خاصة إيران وسوريا نحو الداخل، وتعميق تموضعات تلك القوى سياسياً وعسكرياً بصورة غير مسبوقة، حتى باتت الجغرافيا السورية ساحة لهجمات متتالية ضد الأهداف الإيرانية وأذرعها، وقادة هذه الأذرع خلال الشهور الأخيرة، مما أدى لتعطل الحل التوافقي حتى لحظة سقوط النظام, ومن خلال ذلك يبدو الحديث عن دور عربي فاعل ومؤثر أمر ضروري ولافت الأمر الذي يضع سوريا بعيداً عن خطط النفوذ والهيمنة.
دور إيران وتحدياتها بعد فقدان حليفها في سوريا
نحو ذلك يطرح مساعد وزير الخارجية المصري السابق فوزي العشماوي رؤيته حول مستقبل الوجود الإيراني في سوريا، قائلا إن ذلك أمر من الماضي حاليا وأن كافة ديناميات التأثير والنفوذ التي كانت تتمتع بها طهران في سوريا باتت من الماضي.
ويتابع السفير فوزي العشماوي تصريحاته لـ”963+”، أنه “من الضروري الآن التفكير في ماهية تبعات هذا الفراغ والتحديات الناتجة عنه سواء على المستوى السياسي أو الميداني، وارتباط ذلك بدلالات أن يكون الحضور التركي عوضاً عن النفوذ الإيراني في خطة السياسة الدولية، وأن تكون فصائل مذهبية أخرى بديلاً عن فصائل حزب الله، بيد أن ذلك كله قد يكون محل انتظار مهل وترقب حتى تستوي الأرض تحت أقدام السلطة في سوريا ويتم ترتيب البيت من الداخل”.
ويثير العشماوي ملاحظة عدم انعقاد أي اجتماع داخل الجامعة العربية بخصوص تطور الأوضاع في سوريا وتدارسه، وبعث رسائل واضحة ومباشرة لكل القوى الموجودة على الأرض، تؤكد كون سوريا ينبغي أن تكون دولة عربية موحدة ذات سيادة مع التأكيد على رفض الجامعة العربية، تواجد أي قوات عسكرية أجنبية ورحيلها مباشرة، مما يفضي نحو أن يكون التأثير الايجابي في سوريا من داخل المحيط العربي.
إذاً يستقر في تقديري أن ذلك المسار هو الطريق الآمن لتكون الدول العربية خاصة القاهرة، هي الداعم لتنظيم الانتقال المؤسسي وتكريس التوجهات الإيجابية في هذا التحول ويستطرد المصدر ذاته قائلاً إن “القاهرة ودول الخليج الفاعلة عليهم الاستناد لرؤية متقاربة، تعمل على تهيئة قنوات الاتصال مع السلطة الجديدة، ما يؤدي لبلورة واقع سياسي آمن وفعال ونقل التصريحات الايجابية ظاهريا لحالة فاعلة على الأرض فضلا عن الدعم الاقتصادي والمالي في تلك اللحظة الحاسمة من واقع ومستقبل سوريا”.
يؤكد الديبلوماسي المصري فوزي العشماوي، أن ممارسة الدور العربي لمهامه على كافة المستويات مع السلطة الجديدة، هو المسار الذي ينبغي أن يكون فاعلا لضبط بوصلة الاتجاه ودرء سيناريوهات السقوط في بئر التطرف والإسلام السياسي ومخاطر الاحتراب والتشتت.
مصر يقينا والحديث للمصدر ذاته “تتأثر بكل ما يحدث بسوريا، وتتمتع بروابط وبعلاقات تاريخية مع دمشق، ولهذا يمكنني التأكيد على دور فاعل للقاهرة في مستقبل سوريا بعد الأسد مع احترام خصوصية الشعب السوري وخياراته، وأن القرار الحاسم والأخير يمتلكه المواطن السوري, لكن على أية حال يمكنني التأكيد أن القاهرة هي النقطة الأكثر جاهزية لاستضافة مكونات السلطة السورية للتباحث في شكل المستقبل وكيفية ضبط مرحلة الانتقال بأقل التداعيات”.
لذا ووفقاً للواقعية السياسية يمكننا الحديث عن أهمية أن تفتح القاهرة خطوط الاتصال مع السلطة الجديدة رغم أي تحفظات سابقة لاستشراف مواقفها وحثها نحو أهمية التحول المدني المؤسسي الديمقراطي.
يختتم مساعد وزير الخارجية المصري السابق حديثه لـ”963+” أن التنسيق بين المواقف العربية مع القوى الإقليمية والدولية سيكون “نقطة الارتكاز نحو مستقبل آمن لسوريا بعد الأسد”.
في السياق ذاته أكدت السعودية “وقوفها إلى جانب الشعب السوري وخياراته في هذه المرحلة المفصلية” من تاريخ البلاد، مطالبة المجتمع الدولي بالوقوف إلى جانب السوريين، وعدم التدخل في شؤون سوريا الداخلية.
وقالت الخارجية السعودية، في بيان لها على منصة إكس، “نؤكد وقوفنا إلى جانب الشعب السوري الشقيق وخياراته في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ سوريا.. وندعو إلى تضافر الجهود للحفاظ على وحدة سوريا وتلاحم شعبها بما يحميها من الانزلاق نحو الفوضى والانقسام”.
التأثيرات المحتملة للفراغ السياسي في سوريا على الأمن الإقليمي
من جانيه يشير أحمد الميموني مدير مركز الدراسات والبحوث في معهد رصانة الدولي للدراسات الإيرانية بالرياض، إلى أنه “لا ينبغي الحديث عن مسألة ملء الفراغ الإيراني في سوريا بعيداً عن المشهد العام في الشرق الأوسط، خاصة منذ اندلاع أحداث طوفان الأقصى وتحرك أذرع إيران حينها تحت مبدأ “وحدة الساحات” مما أفضى لمشهد مغاير تماماً خلال الشهور الأخيرة تحديداً وعلى آثر ذلك تحركت إسرائيل للتموضع في نقاط جغرافية محددة كجبل الشيخ لخلق مناطق عازلة لحدودها سواء في لبنان وحاليا في سوريا على اعتبار انها كانت الأكثر تضررا من الوجود الإيراني”.
ويستطرد أحمد الميموني في سياق تصريحاته لـ”963+” قائلاً إن المستقبل يشي “بسعي إسرائيل للتحرك على تخوم انكسارات وهزائم محور المقاومة. كما لا ينبغي تجاهل أن هذا الفراغ ستسعى تركيا أيضاً للتموضع على حسابه وتوظيف حضور الفصائل الموالية لها في النظام الجديد لضمان الأفق السياسي والأمني الخاص بها”.
إلى ذلك يلفت مدير مركز الدراسات والأبحاث بمركر رصانة المتخصص في الشأن الإيراني بأهمية دور الدول العربية الفاعلة خاصة القاهرة والرياض، ويرى أن ثمة فرصة تاريخية لعودة سوريا من جديد حيز العلاقات العربية ودعم خطوات الانتقال السياسي وتجاوز مخاطر المرحلة الانتقالية.
ويؤكد الميموني أن “سوريا دولة مركزية في العالم العربي، وهناك تطلع كبير من المملكة العربية السعودية أن تلبي المرحلة الحالية طموحات الشعب السوري وأن يكون التعاون بين دمشق والرياض لصالح البلدين كما ينبغي أن تعود سوريا مرة أخرى كعضو فاعل في الجامعة العربية”.
ويختتم الميموني تصريحاته، بأن الدور العربي في الحالة السورية سيكون مرتبطاً بشكل كبير بمدى تطور الوضع في الداخل السوري، واستجابة السلطة الجديدة لمحددات الانتقال السياسي وتجاوز المرحلة الانتقالية بهدوء نسبي يعكس رؤية وازنة لخطورة المرحلة واللحظة التاريخية، التي تمر بها سوريا والشرق الأوسط كله فضلاً عن أهمية تواءم السلطة الجديدة في سوريا مع المواقف العربية بعيداً عن الاستقطابات الخارجية، وبما يخدم مصالح الأطراف العربية جميعاً وغلق حقبة الفوضى التي ارتبطت عميقاً بالأذرع الوظيفية لإيران وتموضعها في الجغرافيا العربية.