خاص _ علي محمد برهوم
شهدت المناطق الساحلية السورية أزمات اقتصادية خانقة انعكست بشكل مباشر على حياة الأهالي، بالتزامن مع التطورات السياسية الأخيرة والتحولات العسكرية. الأزمة التي كانت جاثمة على صدور السكان ازدادت سوءاً مع انهيار العملة وتذبذب أسعار السلع الأساسية، إلا أن المرحلة الحالية تشير لتحسنٍ تدريجي رغم التحديات الهائلة.
“كل يوم مصيبة أكبر”
في جبال الساحل السوري، يتحدث محمد علي (61 عاماً)، وهو أب لخمسة أطفال، بنبرة مفعمة بالخيبة قائلاً لموقع “963+”: “في هذه الجبال الوعرة كتب علينا أن لا ننام على مصيبة إلا ونستيقظ على مصيبة أكبر منها”.
ويلخص علي، واقعاً أليماً واجهه السكان بعد التدهور السريع للاقتصاد منذ اليوم الأول لبدء “إدارة العمليات العسكرية” عملياتها في حلب، والتي بدأت في 27 من الشهر الماضي. ومع تصاعد الأزمة، لجأ إلى البحث عن مصادر دخل إضافية لتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، مشيراً إلى أن كل محاولة لتحقيق استقرار بسيط تصطدم بانهيار جديد.
وفي ظل حكم النظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد، عانت البلاد من انهيار اقتصادي غير مسبوق كان انعكاساً لعقود من “الفساد وسوء الإدارة”، بحسب محللين. المواطن السوري وجد نفسه يدفع الثمن الباهظ لتلك السياسات التي أرهقت الاقتصاد وأضعفت قدرته على الصمود.
والليرة السورية شهدت تدهوراً حاداً ومستداماً. ففي عام 2011، كان سعر صرف الدولار الواحد حوالي 50 ليرة سورية، لكن مع تصاعد الأزمات والحرب، تهاوت العملة تدريجياً لتصل إلى أكثر من 30 ألف ليرة مقابل الدولار قبل سقوط النظام في بعض المناطق السورية. هذا الانهيار أدى إلى موجات تضخم غير مسبوقة، جعلت أسعار السلع الأساسية خارج متناول معظم الأهالي.
وأصبحت الأجور الشهرية لمعظم العاملين، بالكاد تكفي لتغطية الحاجيات الأساسية لأسبوع واحد، مما دفع العديد من الأسر إلى الاعتماد على الإعانات أو التخلي عن الاحتياجات الضرورية.
وفي الوقت نفسه، تآكلت احتياطات البلاد من النقد الأجنبي بسبب تهريب الأموال ونهب البنوك من قبل بعض كبار المسؤولين والضباط، خاصة خلال المراحل الأخيرة من حكم النظام، بحسب مراقبين.
ارتفاع جنوني في الأسعار وضغط على التجار
يروي سامر يوسف (54 عاماً)، صاحب دكان صغير في إحدى قرى الساحل، أن أسعار السلع الأساسية تضاعفت بشكل غير مسبوق.
ويقول لـ”963+”: “كيلو الرز الذي كان بـ15 ألف ليرة سورية أصبح الآن بـ28 ألف، والسكر قفز من 14 ألفاً إلى 30 ألف ليرة سورية. حتى علبة المتة الصغيرة التي كانت بـ14 ألف تجاوزت 25 ألفاً”.
ويشير إلى أن “تجار الجملة يبررون نقص المواد بضعف الكميات المتوفرة، مما دفعهم إلى التوزيع بالتساوي وبكميات محدودة”، مضيفاً: “كان هناك طابور طويل من أصحاب الدكاكين في انتظار الحصول على المواد التموينية”.
من جهتها، اتهمت علياء حسن (55 عاماً)، وهي آنسة متقاعدة، بعض أصحاب الدكاكين باحتكار السلع وإخفائها لرفع أسعارها. تقول حسن لـ”963+”: “بعض الدكاكين أغلقت أبوابها تماماً، وأخرى كانت تبيع بكميات محدودة وبسرية، مع تحذير بعدم إخبار الآخرين”.
ويرد بعض أصحاب المحال بأن السبب الرئيسي لإغلاق محالهم هو عدم استقرار نشرة الأسعار وتقلب سعر الصرف بشكل مستمر، حيث ارتفع الدولار من 14,200 ليرة إلى ما يقارب الـ30 ألف ليرة قبل أن يعود إلى نحو 15 ألفاً بعد تسليم إدارة العمليات العسكرية للسلطة.
اقرأ أيضاً: هل ينهار الاقتصاد في حلب بعد سيطرة “تحرير الشام”؟ – 963+
هبوط كبير وانهيار اقتصادي
بعد سيطرة “هيئة تحرير الشام” على حلب، قبل أسبوعين، سجل سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي في مدينة حلب، 23 ألف ليرة للدولار الواحد في هبوط كبير و”سقوط حر ومدوي” شهدته للمرة الأولى في تاريخها، بعد أن كانت تساوي 15 ألفاً قبل سيطرة “الهيئة” والفصائل على المدينة يوم السبت الماضي.
وتحدثت مصادر محلية لـ”963+”، حينها، أن أسواق حلب تشهد “تخبطاً وتفاوتاً بالأسعار بين منطقة وأخرى وما يشبه الفوضى الاقتصادية في عمليات البيع والشراء، حيث سجل سعر ربطة الخبر في بعض الأحياء 20 ألف ليرة (دولار أميركي واحد)، فيما تباع بأحياء أخرى بأربعة آلاف ليرة.
وهوت قيمة الليرة السورية في محافظات اللاذقية وطرطوس ودمشق أمام الدولار الأميركي بشكل متسارع، بالتزامن مع تقدم “هيئة تحرير الشام” والفصائل الموالية لتركيا في شمال ووسط البلاد.
ورصد موقع “963+” أسعار بعض المواد التموينية في محافظة الرقة السورية شمال البلاد، حيث وصل سعر الكيلو غرام الواحد من السكر إلى 25 ألف ليرة، في حين بلغ سعر الزيت النباتي 4 ليتر 200 ألف ليرة سورية.
اقرأ أيضاً: تراجع الليرة أمام الدولار وارتفاع أسعار المحروقات جنوبي سوريا – 963+
كما وصل سعر صرف الدولار الأميركي في الرقة إلى 40 ألف ليرة سورية للدولار الواحد، قبل أن ينخفض إلى 35 ألفاً، ليستقر بعدها عند 30 ألف ليرة.
وشهد سعر صرف الليرة السورية تراجعاً أمام الدولار الأميركي، الأسبوع الماضي، بمحافظة درعا جنوبي سوريا.
وقال مصدر محلي لموقع “963+”، حينها، إن “سعر صرف الليرة سجل اليوم الأحد في درعا 16000 للدولار الأميركي الواحد، بعد أن أغلق سوق الصرف أمس السبت على 14850 ليرة للدولار”.
كما سجلت أسعار المحروقات في محافظة درعا بحسب المصدر، ارتفاعاً ملحوظاً اليوم، حيث سجل سعر ليتر المازوت “الحر” 20 ألف ليرة، بعد أن كان بالأمس يساوي 18 ألفاً.
وأعلنت “هيئة تحرير الشام”، بعد سيطرتها على دمشق بداية الأسبوع الجاري، تكليف المهندس محمد البشير برئاسة حكومة انتقالية حتى آذار/ مارس 2025.
وقال رئيس الحكومة السورية المؤقتة، محمد البشير، إن “الحكومة المؤقتة” شُكلت بهدف إدارة البلاد في ظل غياب النظام السابق. مشيراً إلى أنها تستند إلى كوادر من “حكومة الإنقاذ” السابقة التي كانت تدير منطقة إدلب شمال غربي سوريا.
وأضاف البشير في مقابلة مع قناة “الجزيرة” القطرية أن لديهم خطة لزيادة رواتب الموظفين بنسبة تصل إلى 300% خلال الأشهر المقبلة، بهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشية.
اقرأ أيضاً: الليرة السورية تهبط إلى 27 ألفاً للدولار الواحد – 963+
أسباب الأزمة وآفاق التعافي
الأستاذ ياسين (42 عاماً)، وهو خبير اقتصادي من طرطوس، أرجع في حديث مع “963+” أسباب الأزمة إلى “سياسات النظام السابق التي أضعفت الاقتصاد وحولته إلى مصدر لجباية الأموال”.
وقال ياسين: “التاجر يضطر لرفع الأسعار لتعويض الإتاوات التي كانت تُفرض عليه. ومع توقف عجلة الاقتصاد وزيادة التقلبات، تفاقمت الأوضاع”.
لكنه أضاف أن الفرصة ما زالت قائمة لتحسين الاقتصاد، مشيراً إلى أن “استقرار الحكومة الجديدة ورفع العقوبات يمكن أن يشكلا بداية لإعادة الإعمار، التي قد تستغرق عقدين من الزمن”. ولفت إلى أهمية الاستثمار في الزراعة والصناعة والسياحة لتحفيز الاقتصاد.
ومع انتقال السلطة واستقرار الإدارة الجديدة، شهد سعر الصرف تحسناً نسبياً، مما بعث الأمل بعودة تدريجية للاستقرار الاقتصادي. المراقبون يؤكدون أن الطريق طويل، حيث يحتاج الاقتصاد إلى عشر سنوات ليعود إلى مستويات ما قبل عام 2011.