لم تكن الفترة بين 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي و8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري فاصلة في تاريخ سوريا والمجتمع السوري فحسب، إنما تمثل نقطة مركزية يتم التأسيس عليها في مشهدية الشرق الأوسط وديناميات النفوذ والتأثير الاستراتيجي.
لا شك في أن انهيار نظام الأسد الابن في أيام معدودات لم يكن فحسب نتيجة سقوط جيش النظام السوري السابق أمام العملية العسكرية الكبيرة التي شنتها “هيئة تحرير الشام” وحلفاؤها، والذي أنتج سيطرة واسعة على المدن الرئيسية والكبرى، من حلب وحمص إلى العاصمة دمشق، بل كان ذلك تعبيراً واضحاً عن حجم الترهل الذي أصاب نظام الأسد، واعتماده الكامل على القوى الخارجية، وتحديداً روسيا وإيران، ما يعكس عتامة عدسة الدولة السورية في قراءة متغيرات السياسة الدولية والإقليمية وارتداداتها على المشهد في سوريا.
كنا على موعد، خلال 12 يوماً، أن نطالع انهيار جيش النظام السابق الذي عانى طويلاً خلال العقد الأخير، كنتيجة منطقية لحالة الاستنزاف الممتدة لصالح قوى خارجية، وارتفاع وتيرة الانشقاقات على مستوى القيادات الميدانية، ما يشي بترنح شرعية النظام وسقوطه من دون مقاومة.
اقرأ أيضاً: مصالح متباينة.. ملامح صراع بين الفصائل يهدد خطط تشكيل جيش موحد
إلى ذلك، قد يبدو أن ما حدث كبير وضخم ولافت، وذلك يقيناً لا محالة. بيد أن الآتي أصعب وأشد تعقيداً. فكل خطوة تحمل أملاً ودفعة إيجابية تقابل عبئاً وجهداً كبيراً مبذولاً لبلوغه بأمان. فإن إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق العلامة الكاملة في اختبار إدارة التنوع داخل المجتمع السوري، سيكوّنان الجسر الآمن الذي يحمل آمال المواطن السوري، بكل طوائفه وأعراقه نحو المستقبل، كما سيكون الجدارية اللازمة لصد أي إملاءات وتدخلات خارجية
بناء الجيش أولوية
يقيناً، يبقى العمل على إعادة بناء الجيش السوري وصوغ وحداته وقياداته تحت مظلة وطنية جازمة من أهم تحديات المرحلة الانتقالية في سوريا، إضافة إلى بقاء الدولة الجهة الوحيدة التي تملك السلاح وتحتكره في مواجهة فصائل مسلحة تسعى إلى تعزيز نفوذها على تخوم الدولة.
يدرك الجميع هول بعض السيناريوهات المتعلقة بمستقبل سوريا. فبعد 8 ديسمبر، وبعد مقاربات الفوضى والتقسيم والاحتراب الأهلي بين “هيئة تحرير الشام” وحلفائها على هامش صراع النفوذ وتقاسم السلطة، ثمة رؤية سياسية وازنة تؤكد أن استقراراً نسبياً على الجغرافيا السورية في الأفق المنظور حالةٌ وظيفية ينبغي أن تتحقق بغية الاستدلال على أن نظام الأسد والتداخلات الإيرانية في الشأن السوري كانا من عوامل تقويض الاستقرار في الشرق الأوسط كله. بيد أن جريان السياسة على أرض الواقع مختلف عن الخطط المرسومة، ما يعني أن التفاعلات الميدانية من قوى المعارضة واتصالات الخارج معها، ومطامع تركيا في مد نفوذها، وقدرة الدول العربية على ممارسة الدور اللازم والمؤثر في ضبط أداء المرحلة الانتقالية، عوامل ستحدد كلها وبدقة الميل نحو سيناريو الحكومة التوافقية، وتماهيها مع توازنات المجتمع، أو الخروج من التاريخ وربما من الجغرافيا أيضاً.
في ظهوره الافتتاحي، عقب دخول العاصمة دمشق، جاء خطاب أحمد الشرع ليقول في معرض حديثه “المستقبل لنا”، لكنه لم يحدد شكل المستقبل، كما أنه لا يستطيع أن يحسم لمن يعود ضمير “نا”، وبالتالي ليس هيناً تصوّر أن “الهيئة” التي تمثّلت كتلة صلبة في جسد القوة التي سعت إلى الخلاص من نظام الأسد ستصيغ مقاربة انفتاحها مع قوى المعارضة، وستدير تعددية مكونات المجتمع السوري وتنوعها.
مسألة غير يسيرة
مشاورات الإثنين بين الشرع ومحمد البشير لتشكيل حكومة انتقالية حتى آذار/مارس المقبل، تتوافق نسبياً مع صيغة قرار مجلس الأمن 2254، أو الوثيقة الدولية الوحيدة التي وافقت عليها الدول الخمس الكبرى، والتي تنصّ على تشكيل حكومة مؤقتة. غير أن الخطوات اللاحقة من كتابة الدستور وإجراء الانتخابات ستتفاعل مع مسارات الداخل وتناقضاتها، ومصالح الخارج ورهاناته، ما يعني أن المستقبل يبصر الكثير من دون اطمئنان، ويترقّب القلق من دون تهاون أو تفريط.
اقرأ أيضاً: حكومة انتقالية بملامح متباينة… إلى أين تتجه سوريا الجديدة؟
في هذا السياق، يقول الكاتب السياسي والصحافي اللبناني حازم صاغية إنه يعتقد أن سوريا الآن أمام منعطف كبير، وللدقّة هو خطير، مضيفاً لـ “963+”: “ربما هذا طبيعي، وربما يبدو منطقياً، فنحن نقف على عتبة مرحلة انتقالية عقب تداعي نظام البعث وانهيار سلطة آل الأسد التي استبدت بالحكم عقوداً طويلة، ما يجعل صوغ تصورات جاهزة ومقاربات حاسمة لليوم التالي في سوريا مسألة ليست بيسيرة، كون عناصر الأزمة قد تجذّرت في بنية الدولة، وتفاعلت بعمق مع الرؤى والتصورات الخارجية، ما يحتّم قراءة متأنية لذلك الأفق، وتمهلاً في مسارات انتقال السلطة بكل تحدياتها وآمالها”.
أدركَت حتمية الانفتاح
يؤكد صاغية أن “من الصعوبة بمكان أن ننكر حضور أسباب وجيهة للأمل، كما لا يمكن تجاهل مبررات الخوف والهلع من المستقبل وسيناريوهاته”، مبيناً أن في مقدمة جسر الأمل تعلم الجميع من تجربة الماضي وما خلفته من آثار في نفس كل سوري، وما اقتنصه هذا الماضي من رصيد سوريا، “فينبغي الاستفادة من ذلك كله حين نشرع جميعاً في بناء سوريا أخرى، سوريا جديدة، سوريا تعددية حديثة، سوريا ديمقراطية منفتحة على العالم”، وذلك يعني أيضاً أهمية استقطاب قطاعات واسعة من الشعب السوري، بمن فيها تيارات تسمى إسلامية. وهنا، يشدد صاغية على “أن هذه التيارات تدرك حتمية الانفتاح على تصورات حداثية، لذا تلفظ مقولات التطرف والتعصب، وباتت تتيقن أن التطرف لن يتواءم مع حركة التاريخ، خصوصاً في مجتمع مركب ثري بتنوعه، كالمجتمع السوري”.
ويشدد صاغية لـ”963+” على أهمية المضي قدماً في تبديد أي مخاوف من الوجوه الحالية وارتباطاتها السابقة، “وبالتحديد تجربة أبو محمد الجولاني في مرحلة قيادته جبهة النصرة وارتباطه بتنظيم القاعدة، إذ ثمة سبب وجيه للقلق”، وبرأيه، لا تكفي التحولات الظاهرية لتبديد هذا القلق، “ما يعني حتمية تنفيذ ممارسات تشي بعدم رغبة ’الهيئة‘ في احتكار السلطة، وباحترام فئات المجتمع السوري كلها، على اختلاف دياناتها وأعراقها وقومياتها”.
ويختم صاغية حديثه قائلاً: “ثمة ضرورة لممارسة قدر كبير من الضغوط، وخصوصاً العربية، إذ ستمارس تأثيراً كبيراً حين تنخرط عميقاً في الوضع السوري، وحين تضغط لتحجيم أي ميلٍ لإقامة نظام ديني متشدد، فحينها تتلاقى الجهود مع طموحات المجتمع السوري ونضالاته لبلوغ لحظة آمنة ومستقرة”.