خاص ـ دمشق
وسط النزاعات التي تمزّق المنطقة، تُلقى بآلاف العائلات النازحة في مهبّ الاستغلال، ليواجهوا أزمات تفوق محنتهم الأساسية. عندما اندلعت الحرب الإسرائيلية على لبنان، لجأت أعداد كبيرة من اللبنانيين إلى سوريا، حاملين آمالهم بحياة أكثر استقراراً وأماناً. لكن هذه الآمال اصطدمت بواقع قاسٍ، حيث تحوّلوا إلى أهداف سهلة للاستغلال الاقتصادي، في ظل غياب قوانين حاسمة تنظم العلاقات بين المستأجرين والمالكين، ومخاوف أمنية فرضت عليهم قيوداً إضافية.
ومع تدفق آلاف اللبنانيين إلى سوريا، شهد سوق الإيجارات في دمشق قفزة غير مسبوقة في الأسعار. الشقق التي كانت تُؤجر بـ100 دولار شهرياً أصبحت تُطلب مقابل 500 دولار، فيما وصلت بعض الإيجارات في مناطق مثل “المزة الشرقية” إلى 1300 دولار شهرياً.
من بين القصص المؤلمة، ما حدث مع جميل مطر، ربّ عائلة لبنانية مكوّنة من خمسة أفراد، الذي انتقل إلى دمشق هرباً من الحرب. يقول مطر لموقع “963+” إن “إيجار الشقة التي كان يعتزم استئجارها ارتفع من 350 دولاراً إلى أكثر من 1100 دولار شهرياً”.
يضيف مطر: “لم يكن هذا عشمنا بإخوتنا السوريين، فنحن نازحون ولسنا مصطافين آتين للنقاهة. جئنا قاصدين إخوتنا الأقربين، فأجبرونا على دفع إيجار سنة مقدماً، أي نحو 13,200 دولار، إضافة إلى 1000 دولار بدل تأمين، و1000 دولار أخرى عمولة للمكتب العقاري، فتخطى ما دفعناه 15 ألف دولار في ساعة واحدة”.
ويردف قائلاً: “بالمناسبة، ليس المنزل بتلك الفخامة التي تسبب الصدمة، نحن استأجرناه مفروشاً في موقع جيد، وفوجئنا أيضاً بأنّ وجودنا ثقيلٌ إلى درجة أن الأسعار الاستهلاكية ارتفعت بشكل كبير منذ وصولنا”.
لم تكن تجربة عائلة مطر فريدة من نوعها؛ عائلة حميّة من جنوب لبنان واجهت ظروفاً مشابهة. اضطرت لدفع إيجار 1300 دولار شهرياً لشقة في منطقة المزة بدمشق، مع دفعة مقدمة تغطي عاماً كاملاً.
ورغم أن الشقة وفرت خدمات متميزة من كهرباء دائمة وطاقة شمسية، إلا أن ربّة العائلة رقيّة أعربت في حديث لـ”963+” عن استيائها مما وصفته بـ”استغلال حاجتنا”، محذّرة من أن “هذه الإيجارات الفلكية ستترك أثراً دائماً على السوق، حتى بعد مغادرتهم”.
وثمة آلاف الأسر اللبنانية التي لم تتمكن من دفع تلك الإيجارات “الفلكية”. فهذه عائلة ناصر عقيل، النازحة من لهيب القصف في الضاحية الجنوبية لبيروت، استأجرت منزلاً في منطقة “مزة 86″، وهذه منطقة شعبية مبنية على كتلة من المخالفات صعوداً نحو أحد أطراف جبل قاسيون شديد الوعورة.
يقول لـ “+963”: “تمكنت من الاستحصال على عقد إيجار أدفع بمقتضاه ثلاثة أشهر مقدماً، بإيجار 300 دولار فقط، لكن هذا إيجار مرتفع في منطقة كالمزة 86”.
وفي طرطوس وحمص، لم يكن إيجار أفضل شقة ليتخطى قبل أشهر قليلة مبلغ 200 دولار، لكنّ لوثة الطمع ضربت المحافظات السورية مع بدء النزوح من لبنان، فيما اكتفت الضابطة التنفيذية الحكومية بتحضير مراكز الإيواء، مبتعدةً عن ملف الإيجارات كونها علاقة وضعية تربط طرفين مكتملي الأهلية قانوناً، ولا يخضع فيهما صاحب الملك لقوانين خاصة، رغم ضرورة تفعيل تلك القوانين في حالات الحرب.
واقع اللاجئين اللبنانيين في سوريا: لا قوانين تحميهم
وفق تقديرات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، بلغ عدد النازحين اللبنانيين في سوريا حوالي 528 ألفاً منذ سبتمبر. في ظل هذا العدد الكبير، ظهرت فجوات قانونية سمحت باستغلال الأزمة.
العقود غالباً ما تكون خارجية وغير مسجلة، ما يجعل حقوق المستأجرين عرضةً للتجاوزات. ويفيد تقرير بأن الحكومة السورية، رغم استقبالها النازحين تحت شعار “الإخوة”، لم تتخذ خطوات حاسمة لتنظيم الإيجارات أو ضبط السوق.
محامون أشاروا إلى أن القوانين الجديدة، مثل القرار رقم /2110/ق الصادر عن وزير الداخلية في الحكومة السورية، ورغم محاولتها معالجة المشكلة، تفتقر إلى التنفيذ العملي.
وأصدرت وزارة الداخلية السورية قراراً حمل الرقم 2110، ينص على إلزامية تسجيل عقود الإيجار في البلديات وتوثيقها لدى الأجهزة الأمنية. الهدف من القرار هو ضبط سوق الإيجارات المتفلت ومراقبة التغييرات السكانية، لكن تطبيقه واجه العديد من التحديات.
يقول المحامي نور سليمان لـ”963+”: “هذا القرار يشكل ازدواجية قانونية مع نصوص أخرى، مثل المادة (6) من قانون الإيجارات، التي تمنع الإخلاء إلا بناءً على قرار قضائي. كما أن الإلزام بتسجيل العقود سيؤدي إلى تعقيد الوضع بالنسبة للنازحين اللبنانيين، الذين يعانون أصلاً من ظروف صعبة”.
لكن الوزارة بررت القرار بضرورة ضمان سلامة السوريين وحماية أملاكهم. وقال مصدر من الداخلية: “لقد تم اكتشاف حالات استئجار بطرق ملتوية، وهناك أدلة على استغلال بعض المستأجرين لوضعهم كنازحين. القرار يهدف إلى حماية الجميع”.
تداعيات اقتصادية واجتماعية
كان للنزوح اللبناني إلى سوريا تداعيات اقتصادية عميقة. مع ارتفاع الطلب على الإيجارات، ولم يقتصر الأمر على العقارات، بل امتد ليشمل أسعار المواد الأساسية. ارتفعت أسعار الوقود والغاز والمواد الغذائية، مما زاد العبء على السوريين، خصوصاً في المناطق التي كانت تعاني أصلاً من ظروف معيشية صعبة.
ووصل سعر اسطوانة الغاز في السوق السوداء إلى 20 دولاراً، ارتفاعاً من 10 دولارات، وارتفع سعر ليتر البنزين من دولار واحد إلى دولارين في بعض المحافظات، كما ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية 100 في المئة، ونشط عمل الفنادق دفعةً واحدة.
وكانت تلك الفنادق تتقاضى بين 60 و100 دولار في الليلة، وصارت تتقاضى 200 دولار عن الغرفة في الليلة الواحدة. يقول الوزير: “سنحاسبهم، لكن ليس الآن لأننا بحاجتهم”.
من ناحية أخرى، دفعت موجة النزوح بعض اللبنانيين إلى ضخ عملات أجنبية في السوق، مما أنعش بعض القطاعات التجارية والسياحية، ولكنه أتى على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة في سوريا.
هذا التناقض جعل الأزمة موضوعاً للجدل: هل كان لاستقبال اللاجئين أثر إيجابي على الاقتصاد السوري أم أنه فاقم معاناة السكان المحليين؟
ورغم تصوير الحكومة السورية للاجئين اللبنانيين كـ”أشقاء”، فإن الواقع يشير إلى تعامل أقرب إلى كونهم “سياحاً”. لم تُنشأ مخيمات للنازحين، وتم التركيز بدلاً من ذلك على الاستفادة الاقتصادية منهم، من خلال رسوم على السيارات والعملات الأجنبية التي يجلبونها.
الأكاديمي الاقتصادي إبراهيم شربجي يرى في حديث لـ”963+” أن هذا النهج يعكس سياسة مزدوجة: “دعم الخزينة العامة، ما أمكن بالقطع الأجنبي في ظل شحه الشديد بفعل عوامل الحرب خصوصا من وفود نحو 700 ألف لبناني وسوري، على حساب الفئات الأضعف”.
الطرد القسري: بين المخاوف الأمنية والشبهة السياسية
لم تقتصر معاناة اللاجئين اللبنانيين على الاستغلال المادي، بل امتدت إلى الطرد القسري من المنازل، بحجة المخاوف الأمنية أو الاشتباه بارتباطهم بأطراف سياسية.
ومع تصاعد القصف الإسرائيلي على مناطق مختلفة في سوريا، خلال الفترة الماضية، وخصوصاً أحياء دمشق مثل المزة وكفرسوسة، وحتى حمص، بالإضافة للجنوب السوري، تعاظمت الشكوك حول اللاجئين اللبنانيين.
مازن شيخ السوق، أحد سكان دمشق، أجّر شقته لعائلة لبنانية في كفرسوسة، لكنه طلب منهم المغادرة بعد القصف المتكرر للحي.
برّر شيخ السوق، في حديث لـ”963″ قراره “بالخوف من أن تكون العائلة هدفاً محتملاً لإسرائيل”. ويقول: “إذا كانت حياتي وحياة أسرتي على المحك، فلا مجال للتردد”، قال مازن بحزم، مضيفاً: “المنزل هو كل ما أملك، ولا أريد المخاطرة”.
وطلب مازن من عائلة المستأجرين إخلاء المنزل، متعهداً بإعادة قيمة الإيجار المدفوعة سلفاً، لكنه لم يكن الوحيد.
وفي حي المزة فيلات، حيث تصطف الأبنية الفاخرة، بدأت موجة من الإخلاءات المشابهة. يقول أحد ملاك العقارات هناك، والذي فضّل عدم الكشف عن اسمه لـ”963+”: “الجيران ضغطوا عليّ بشدة. كانوا يخشون أن يجلب المستأجرون اللبنانيون المشاكل، خاصة مع تصاعد الغارات. اضطررت إلى تقديم شكوى لإخلاء الشقة، رغم أن العقد لم يكن مسجلاً رسمياً”.
وتروي ليلى، ربة منزل سورية، كيف تحولت بنايتهم إلى ما يشبه ساحة معركة اجتماعية. تقول لـ”963+”: “كان لدينا جار لبناني، وبدأ الجيران يتهامسون حوله، رغم أنه لم يفعل شيئاً مشبوهاً. لكن في النهاية، طلب صاحب الشقة منه المغادرة. المسألة لم تكن عادلة”.
وتضيف ليلى: “لكنني أيضاً أفهم مخاوف الناس. عندما تعيش تحت القصف يومياً، يصبح من الطبيعي أن تبحث عن أي سبب لتجنب الخطر”.
مصدر عسكري أكد لـ”963+”، أن “هذه المخاوف مبالغ فيها”، مشيراً إلى أن “إسرائيل تقصف على الشبهة، دون الاكتراث بهوية السكان”. لكنه أضاف أن “الضغوط الاجتماعية من الجيران هي ما يدفع الكثير من المالكين لاتخاذ قرارات الطرد، خاصةً إذا كان المستأجرون غير مسجلين رسمياً”.