“على أمل أن يرمموا بيوتنا التي تهدّمت”، بهذه الجملة اختصرت الحجة أم علي المشهد، فيما كانت تتفقد بيتها في الشياح بالضاحية الجنوبية لبيروت، الذي تعرض لدمار شبه كلي بسبب الغارات الإسرائيلية التي استهدفت المنطقة.
وبابتسامة لم تستطع إخفاء قهر صاحبتها، قالت أم علي لموقع 963+: “تفضلوا اشربوا القهوة”. ربما كانت تمزح، وربما لا، لكنها دعوة مصحوبة بروحها الحلوة وبحزنها العميق. “البيت يحتاج إلى الكثير من الترميم، لكن المهم أننا بصحة جيدة”، ختمت حديثها معنا.
هذا الصباح، تبدو الجولة في الضاحية الجنوبية لبيروت استثنائية ومختلفة تماماً، فالصخب هذه المرة ليس دليلاً على أنه مجرد يوم جديد من العمل والحياة والضجيج، الصخب هو صخب الحرب وإن سكتت الآن أصوات القذائف.
أصوات وضجيج وأعلام وبعض الموسيقى والتهليل بانتهاء الحرب، هكذا بدت أحياء الضاحية مع الصبيحة الأولى لبدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله”، برعاية أميركية وفرنسية.
أناس بوجوه متعبة
الدمار في كل مكان، من الشياح إلى الليلكي وحي السلم وبرج البراجنة والغبيري والمريجة وحارة حريك والحدث.. أناس بوجوه متعبة يحاولون السير فوق الركام بحثاً عن آثارهم وأغراضهم، بعدما اضطروا إلى ترك منازلهم والنزوح إلى مناطق آمنة. وقد وصل عدد النازحين إلى نحو مليون شخص، ليس من الضاحية وحدها بل أيضاً من الجنوب والبقاع وبيروت.
في الليلكي والتي تعرّضت لقصف إسرائيلي متكرر في الشهرين الأخيرين مع اشتداد الأعمال العسكرية، يقف محمد الرجل الخمسيني بوجه يكاد يبكي، فوق ركام منزله، بيده كيس كبير يجمع فيه ما تيسّر من أغراضه وأغراض عائلته. “لم أعثر سوى على سجادة وبعض الثياب الممزقة”، يقول لـ 963+ وهو يلفّ سجادته التي أكلت نصيبها من التمزّق والغبار. ثم ينفض يديه وثيابه ويدير وجهه مجدداً إلى الركام، كما لو أنه يتأكد من أنه ليس مجرّد كابوس وسينتهي.
الرصاص لا يثير الانتباه
خلال الجولة التي استغرقت نحو 4 ساعات في أحياء الضاحية، لم يتوقف صوت الرصاص، شبان على دراجات نارية يجوبون الشوارع ويطلقون النار بين المارة، لكن لهول المشهد، لم تهزّ الأصوات أياً من الأهالي، بدا صوت الرصاص عادياً ورتيباً، وكأن الرؤوس التي ازدحمت ناراً وقصفاً ومسيّرات في الأسابيع الأخيرة، لم يعد الرصاص يريبها أو يثير انتباهها حتى.
وبحسب مختبر المدن في بيروت التابع للجامعة الأميركية، فالضربات الجوية الإسرائيلية هدمت 262 مبنى على الأقل في الضاحية الجنوبية لبيروت وحدها.
دمار وخسائر
نحو 46 ألف مبنى دُمر في لبنان خلال الحرب منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى يوم أمس، بحسب “الدولية للمعلومات”، علماً أن العدد الأكبر وهو 42 ألفاً دمر خلال الشهرين الأخيرين، مع دخول الحرب في مرحلة جديدة، شهدت اغتيال أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله وخليفته هاشم صفي الدين، وغيرهما من القادة، وعدداً كبيراً من المدنيين. وقد وصل عدد الضحايا إلى أكثر من 3700 شخص وفق الأرقام الرسمية.
في المريجة حيث اغتيل صفي الدين، الحفرة هائلة ويمنع التصوير أو الدخول أو حتى الاقتراب، فيما ما زالت الجرافات تعمل على ترميم المكان، لكن المشهد يكاد يختصر هاذان الشهران الأخيران اللذان عاشتهما الضاحية.
وفي ظل الكارثة التي تمتد إلى كل المناطق التي استهدفها القصف، ارتفعت معدلات البطالة لتصل إلى نحو 250 ألف عامل، مع تضرر المؤسسات الصناعية والتجارية والسياحية بخسائر وصلت إلى 510 ملايين دولار، منذ 17 أيلول الماضي، أي تاريخ توسع الحرب الإسرائيلية على لبنان، لترتفع كلفة الخسائر المباشرة وغير المباشرة للحرب، إلى أكثر من 11 مليار دولار، يتصدّرها قطاع السكن، بحسب “الدولية للمعلومات”، المتخصصة بالدراسات والإحصاءات.
اقرأ أيضاً: هل ماتت الحقيقة مع باسكال سليمان؟
وبحسب تقرير حديث للبنك الدولي، فقد تم تقدير الأضرار والخسائر بشكل أولي بنحو 8.5 مليار دولار. وبطبيعة الحال لا يمكن الركون على رقم واحد للخسائر، ذلك أن الكثير من الدمار لم يتم الكشف عنه أو إحصاءه حتى الآن.
وقد تكبد قطاع الزراعة خسائر تجاوزت 1.1 مليار دولار خلال الأشهر الاثني عشر الماضية بسبب تدمير المحاصيل والثروة الحيوانية ونزوح المزارعين، خصوصاً في جنوب لبنان والقرى الحدودية التي تعرضت لأعنف العمليات العسكرية. وقد مسح الجيش الإسرائيلي نحو 37 قرية حدودية سوّيت بالأرض، وفق الوكالة الوطنية للإعلام. وهي مناطق تحتاج إلى إعادة إعمار كبيرة حتى يستطيع السكان العودة إليها.
وقال البنك الدولي إن قطاعي السياحة والضيافة، المساهمين الرئيسيين في الاقتصاد اللبناني، كانا الأكثر تضرراً بخسائر بلغت 1.1 مليار دولار، كما أن تكلفة الأضرار التي لحقت بالمساكن في لبنان تقدر بنحو 2.8 مليار دولار مع تدمير أكثر من 99 ألف وحدة سكنية بشكل جزئي أو كلي.
وقدر تقرير البنك الدولي الأضرار التي لحقت بالزراعة بنحو 124 مليون دولار وخسائر تزيد على 1.1 مليار دولار، بسبب فوات الحصاد نتيجة تدمير المحاصيل والثروة الحيوانية ونزوح عدد كبير من المزارعين. ووصلت خسائر قطاع الزيتون وحده إلى 58 مليون دولار، علماً أن الزيتون يعدّ من أبرز مصادر دخل أهل الجنوب، عدا رمزيته الوطنية والاجتماعية.
انتهت الحرب أو توقف إطلاق النار على الأقل وفق الاتفاق الذي يستغرق 60 يوماً، لكن حجم الدمار في الضاحية وخارجها يحتاج إلى نحو 4 سنوات للترميم والإعمار، بحسب “الدولية للمعلومات” في حال توفّر التمويل. والتمويل معضلة أخرى كبيرة، لا حلول واضحة لها حتى اللحظة، وسيكون على الأهالي وأصحاب المؤسسات والمتضررين الانتظار والترقّب.