في اليوم التالي لحرب عام 1967، خرج الإعلام العربي ليقول لجمهوره إنه انتصر. انتهت تلك الحرب المسماة بـ”النكسة” بهزيمة عربية مدوية، غير أن الأنظمة العربية وأحزاب السلطة ارتأت أن أفضل خيار لبقائها هو إقناع الجمهور بانتصارها على إسرائيل. على المنوال نفسه، غداً، عند نهاية الحرب السورية والحرب بين إسرائيل وكل من “حزب الله” اللبناني و”حركة حماس” الفلسطينية، سيخرج هؤلاء ليعلنوا لجمهورهم أنهم انتصروا.
“الانتصار العربي” وأربابه لا يكترثون فعلاً للنتائج الواقعية، ولا للميدان العسكري، بل يقيسون الأمور بمنظار مختلف. ترى الأحزاب والحركات المقاوِمة أن مجرد بقائها بعد الحرب هو انتصار بحد ذاته، وأن بقاء قدراتها على إطلاق ولو رصاصة واحدة على إسرائيل يكفي لتعدّ نفسها في مصاف الرابحين. يغيب عن بال هؤلاء أن نتائج الحروب العسكرية تُقاس بالاتفاق السياسي الذي ينهيها، فهو الاتفاق الذي يدوم لفترات طويلة عادة، ويحدد حقوق وصلاحيات ونفوذ كل طرف بعد الحرب.
في الساعات الأخيرة، وردت أخبار مهمة حول قرب التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله” تبعاً للمبادرة التي عملت عليها الإدارة الأميركية لأشهر. لم يُسرَّب الاتفاق النهائي، ولا عُرفت بنوده كافة، على الرغم من صدور الكثير من التطمينات والأجواء الإيجابية وحتى التسريبات من الفاعلين في هذا الشأن.
العقبة الوحيدة الظاهرة حول قرب التوصّل إلى وقف إطلاق النار هي معارضة بعض وزراء اليمين الإسرائيلي المتطرف. إلا أن هؤلاء، أمثال وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير” الذي قال إن بلاده تملك “فرصة تاريخية لتركيع حزب الله ويجب الاستمرار في سحقه”، لم يُعلنوا أن السير بالاتفاق سيدفعهم إلى الاستقالة وبالتالي إسقاط حكومة بنيامين نتنياهو.
وما عُرف عن الاتفاق شبه النهائي بين إسرائيل و”حزب الله” لا يبدو لصالح هذا الأخير البتة. تذكر “رويترز” و”أكسيوس” ووكالات أجنبية مهمة أخرى أن الاتفاق سيكون من 13 بنداً، على رأسها بند يُجبر مقاتلي الحزب على مغادرة جنوب نهر الليطاني اللبناني، والامتناع عن التسلح من جديد. إن تطبيق هذا الأمر جدياً سيعني نهاية الاحتكاك بين طرفي الصراع، وبالتالي حفاظ إسرائيل على أمنها بعد ابتعاد الحزب عن حدودها. أما الضامن لعدم إعادة “حزب الله” تسليح نفسه، فسيكون، حسب الاتفاق، من مسؤولية الولايات المتحدة الأميركية التي سترأس لجنة بعضوية كل من فرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول، لتشرف على تنفيذ الاتفاق ومراقبة الحدود البحرية والبرية والجوية اللبنانية.
أما الجيش اللبناني فستكون مهمته إعادة الانتشار جنوب لبنان والتعاون مع “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (اليونيفيل) المرابطة على الحدود بين لبنان وإسرائيل، لمراقبة المنطقة التي سيغادرها مقاتلو الحزب. أما وإن أخلّ الحزب بالاتفاق، فستسمح اللجنة التي ترأسها الولايات المتحدة لإسرائيل بالتحرك العسكري ضد الحزب، وكل ذلك تبعاً لما سُرِّب من الاتفاق المنوي السير به.
لا يمكن، بحال من الأحوال، إلا الإقرار بأن “حزب الله” أبلى بلاءً حسناً في الميدان جنوب لبنان. صحيح أنه لم يقتل سوى 80 ضابطاً وجندياً إسرائيلياً حسب آخر بيان رسمي لوزارة الدفاع الإسرائيلية، لكنه دافع عن القرى الجنوبية ببسالة وشجاعة. لكن، لم يكفِ هذا الأمر وحده ليحصل الحزب على اتفاق يؤمّن له الانتصار، ربما لأن الضعف الأمني والاستخباراتي الذي عانى منه الحزب، كما مقتل معظم قيادييه العسكريين والسياسيين، وبخاصة زعيمه التاريخي حسن نصرالله، قد أدى إلى نكسة ووهن في جسم الحزب.
لا يعني كل ذلك شيئاً للآلة الإعلامية والدعائية التي لا يزال “حزب الله” يملكها، إذ إنها بدأت، تبعاً لما يُبث حالياً على قناتي “المنار” و”الميادين” وغيرهما، وحتى قبل التوصل النهائي لاتفاق وقف إطلاق النار، بادعاء الانتصار. يتشابه الأمر حد التطابق مع ما قامت به الدول المهزومة عام 1967، التي راحت توهم شعوبها بالانتصارات وتغدق على نفسها عبارات البطولة والكرامة والثناء، فقط لكي تؤمّن بقاءها وحضورها في السلطة والحكم.
معركة “حزب الله” المقبلة ستكون إقناع جمهوره بأنه لم يُهزم، وبأن تضحيات مقاتليه لم تذهب هباءً. مهمته المقبلة إعادة لملمة المجتمع الموالي له، المشتت حالياً في مراكز الإيواء بعيداً عن الجبهات والخطر. مهمة صعبة في زمن الإعلام الكثيف المعادي للحزب والتصريحات الإسرائيلية اليومية المنقولة إلى مسامع اللبنانيين، لكنها ليست مستحيلة. يعرف الحزب جمهوره الواسع جيداً، كما يعرف ما يُحركهم ويُحرك مشاعرهم، ويستطيع، كما دوماً، ربط الحرب التي حلّت بالمظالم التاريخية التي تعرض لها الشيعة، كما بإطلاق وعود جديدة عن الانتصارات الموعودة القادمة. إقناع الجمهور بهذه السردية كانت مهمة يتولاها نصرالله، وكان صوته مسموعاً حدّ التقديس بين جمهور حزبه، لكن غيابه سيجعل من تسويق هذه السردية أمراً صعباً، حتى وإن لم يكن مستحيلاً.
غداً، عند وقف إطلاق النار وعودة سكان الجنوب إلى قراهم، سيحتفلون على الطرقات بالانتصار أسوة بما فعلوه في اليوم التالي لنهاية “حرب تموز” عام 2006، لكن سرعان ما سيتبدد هذا الاحتفال عند وصولهم إلى قراهم ورؤيتها مدمّرة بشكل كلي. حينها، سيعودون مشردين مجدداً، وعلى الحزب تأمين حياتهم في الجنوب وهو ممنوع، حسب اتفاق وقف إطلاق النار، من العمل والنشاط والتحرّك هناك.
بيئة الحزب تحملت شدائد وصعوبات لا تُحصى طوال الحرب، وسيكون عليها تحمّل المزيد. العبرة في كل ما حصل بين الحزب وإسرائيل هي أن الحرب بينهما انتهت إلى غير رجعة، فيما يبقى مصير من يقرر قتال إسرائيل هو دفع الثمن موتاً وخوفاً ودماراً خلال الحرب، ودفع الثمن ذلاً وتشريداً في ما بعد.