منذ أيام قليلة، توقف مصنع “سايبا” الإيراني لتجميع السيارات في سوريا عن الإنتاج بعد عشرين عاماً من انطلاق العمل به. افتُتِح هذا المصنع في عام 2004، وكان أحد أبرز المشاريع الاقتصادية التي دخلت إيران من خلالها إلى السوق السوري.
ومن بين أهم محطات هذا المشروع كان افتتاح خط إنتاج طراز “برايد” في مدينة حمص في عام 2007، حيث كان المصنع يهدف إلى تزويد السوق السورية بسيارات اقتصادية تعتمد على التصنيع المحلي. إلا أن توقف الإنتاج الآن يثير تساؤلات حول مستقبل التعاون الاقتصادي بين البلدين، خاصة في ظل التحديات التي يواجهها هذا التعاون.
رئيس غرفة التجارة السورية-الإيرانية، سعيد عارف، أرجع توقف مصنع “سايبا” إلى ما أسماه “مشكلات لم تُحل بين البلدين”. كما أشار إلى أن أي مصانع إيرانية أخرى لم تُفعّل في سوريا في السنوات الأخيرة، مما يعكس ضعف التعاون الصناعي بين الجانبين.
وتتعرض غرفة التجارة السورية-الإيرانية لانتقادات شديدة بشأن دورها وهيكليتها، حيث يرى العديد من المراقبين أنها لم تتمكن من تحقيق الأهداف المرجوة من هذا التعاون الاقتصادي.
وفيما يخص التبادلات التجارية، أضاف عارف أن هناك خللاً كبيرًا، حيث لا يمكن للإيرانيين استيراد البضائع السورية إلى إيران.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن العديد من السلع السورية يتم إنتاجها وتصديرها بالفعل في إيران، وبالتالي فإن هناك قلة في الطلب على هذه البضائع في السوق الإيرانية.
وهذه مشكلة إضافية على مستوى العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث كان من المفترض أن تتوسع هذه العلاقات التجارية وتحقق استفادة متبادلة، لكن الوضع الحالي لا يعكس ذلك.
اقرأ أيضاً: إيران تستمر بتقليص صادراتها النفطية إلى سوريا
ولطالما أعلنت إيران وسوريا عن اتفاقيات اقتصادية ومذكرات تفاهم، كان آخرها “اتفاقية توأمة” متعددة المجالات في أيلول/سبتمبر الماضي، منها النقل ومعالجة النفايات الصلبة والأتمتة والإلكترونيات، إضافة إلى السياحة الدينية والعلاجية.
وفي تموز/يوليو الماضي، لوحت طهران بورقة اقتصادية، حين أرسل الرئيس الإيراني المؤقت حينها، محمد مخبر، “مشروع اتفاقية التعاون الاستراتيجي طويل الأمد مع سوريا” إلى البرلمان الإيراني للتصديق، قبل تسليم مهامه لمسعود بزشكيان.
ويتكون المشروع الذي يعتبر ضغطاً على الحكومة السورية، من مقدمة و5 مواد، وتتضمن المادة 5، فقرة تقول إن مدة الاتفاقية محددة بـ20 عاماً قابلة للتمديد “حتى وفاء سوريا بالتزاماتها، وسداد الديون المستحقة عليها”، والمتعلقة بالخطوط الائتمانية.
ورغم أن عملية إبرام الاتفاقيات الاقتصادية ومذكرات التفاهم بين إيران والحكومة السورية لم تتوقف على مدى السنوات الماضية، ظلّت الكثير منها “طي الأدراج”، وفق خبراء تحدثوا لموقع “963+”.
اتفاقات دون عوائد
صبغت التوجهات الاقتصادية الإيرانية في سوريا، سمة عامة وهي النجاح في إبرام الاتفاقيات مع الفشل في تحويلها إلى واقع، نتيجة ثلاثة عوامل رئيسة، هي المنافسة الروسية، وتأثير العقوبات الغربية، والضعف الاقتصادي في سوريا.
لكن يونس الكريم، خبير في الاقتصاد ومدير منصة اقتصادي، يقول لموقع “963+”، إن “المشاريع الإيرانية في سوريا لم تفشل، ونجحت من خلال الخط الائتماني حيث باعت الحكومة السورية النفط عن طريقه وحصلت إيران على عوائد منه”.
واعتمدت الحكومة السورية على القرض الائتماني الذي منحته إيران في سجل المحروقات، ومن ثم بيعها والتصرف بها كأجور ورواتب، وبدأ الفشل لديها، في المقابل تمتلك إيران حاضنة من رجال الأعمال متنفذين في الحكومة ولديهم استثمارات كبيرة، وفقاً للخبير.
ويشير الكريم، إلى أن “تجاراً بارزين يملكون جزءاً من الأموال لصالح إيران، كالقاطرجي ومحمد حمشو وشركة الفاضل”، موضحاً أن “طهران لم تبنِ مشروعاً لها في سوريا خوفاً من القصف”.
وسبق أن تعرض مصنع “سايبا” في حسياء لغارة جوية إسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مما أدى إلى تفاقم ركود الصناعة المرتبطة بمصالح إيران. وكانت مواقع إيرانية قد نشرت تسجيلاً مصوراً من داخل المصنع يظهر أشخاصاً يتكلمون الفارسية بزي عسكري، ويتجولون داخل المعمل، وصور معلقة على جدران المصنع لقادة في “الحرس الثوري” الإيراني.
اقرأ أيضاً: “لا شيء بمنأى عن الغلاء”.. السوريون اعتادوا رفع الأسعار
ويتابع الكريم: أن “دمشق استفادت من قنوات إيران الدولية، التي نجحت في سوريا، وطهران تموّل فصائلها من عوائد تلك الاستثمارات في سوريا، إذ إنها توقفت منذ زمن بعيد عن التحويل المالية من طهران”، وفقاً لقوله.
ويلفت إلى أن إيران لم تدفع للحكومة السورية ثمن دراسة جدوى مقابل مشاريعها في سوريا، بل استبدلتها بالمقايضة مقابل الدعم العسكري، حيث إن طهران تحاول دعمها لدمشق بمشاريع واستثمارات لكنها لا تملك الأموال الكافية لتشغيل هذه المشاريع.
ومنتصف الشهر الجاري، قال رئيس غرفة السورية الإيرانية، إنه ورغم إنفاق إيران ما لا يقل عن 25 مليار دولار لدعم الحكومة السورية، إلا أنها لم تحقق مكاسب اقتصادية ملموسة من إعادة إعمار سوريا.
استغلال اقتصادي
يضيف الخبير الاقتصادي أن أمام إيران عوائق عدة وقوانين لا يمكنها أن تتجاوزها من حيث العقود وعدد العمال وبيع المنتجات واستيراد المواد الأولية، بسبب الضغوط على العملة السورية، كذلك غياب الدعم العربي والأجنبي الذي يمكّن إيران من مقايضة منتجات المؤسسات التي سيطرت عليها، لذلك فإن المؤسسات التي استثمرتها طهران في سوريا غير مجدية وتحتاج لأموال ضخمة.
ويقول الكريم إن العقود التي وقعتها طهران مع دمشق حول استثمار مؤسسات وقطاعات في الحكومة “غير قانونية”، كونها اعتمدت على مبدأ المقايضة مقابل دعمها العسكري للقوات الحكومية.
كما تتخوف طهران من إعادة النظر في استثماراتها في حال كان هناك حل في سوريا ونزعها من تلك المؤسسات بسبب عدم شرعيتها، لذا تخشى إيران من تطوير وتأهيل المؤسسات التي استثمرتها كما يزيد من مخاوفها عدم استقرار “النظام السوري”، بحسب الكريم.
ويرى أن عدم وجود استقرار سياسي يعيق تنفيذ تلك الاتفاقيات بين إيران وسوريا، كما ترفض روسيا، إنشاء أي مشاريع إيرانية في سوريا لأن ذلك من شأنه أن يصعّد الخلافات ويفتح المجال لمزيد من القصف الأميركي الإسرائيل.
وتوجد اتفاقات اقتصادية سرية بين طهران ودمشق، كمنح حصة 30 بالمئة من إنتاج الفوسفات الذي تستخرجه روسيا، وامتداد يد إيران الطولى في ميناء اللاذقية، وفق قوله.
ويلفت الكريم إلى أن إيران تحرك الاتفاقات الاقتصادية مع الحكومة السورية إعلامياً، للتلميح أن أي حل في سوريا يجب أن يشمل مصالح طهران، والتفاوض معها، لا سيما أن “النظام” يتحجج بعدم طرد إيران، أن “لديها ديون عليه ولا بد من تسديدها، ويضغط بذلك على الدول العربية”.
وبين عامي 2011 و2024، وقعت الحكومة السورية مع إيران ما لا يقل عن 126 اتفاقية في مختلف القطاعات، مثل الطاقة والتجارة والصحة والتعليم والزراعة والصناعة والاتصالات والتمويل وغيرها، تم تنفيذ 43 اتفاقية، بينما لا تزال 47 قيد التنفيذ، وبلغ عدد الاتفاقيات تحت التنفيذ الجزئي أو المتقطع 25 اتفاقية، أما الاتفاقيات التي لم يتم تنفيذها فهي 4 اتفاقيات، وفق مراكز دراسات.
اقرأ أيضاً: غرفة تجارة دمشق: حالة الاقتصاد بسوريا منعزلة عن العالم
من جهته، يقول طارق القاضي خبير اقتصادي ونائب رئيس تحرير مؤسسة روز اليوسف، إن العلاقات الإيرانية السورية القديمة انعكست على المجال الاقتصادي، لكن بعد 2011 كان هناك الكثير من الاتفاقات الاقتصادية بين الطرفين.
ويضيف لـ”963+”، أنه منذ تدخل إيران في سوريا عسكرياً اتجهت للاستغلال الاقتصادي عبر اتفاقات اقتصادية ضخمة. ووقعت طهران مع دمشق حوالي 120 اتفاقية في مجالات متعددة، وأبرزها قطاع النفط.
ويوضح أن الكثير من الاتفاقات الاقتصادية التي أبرمتها إيران مع الحكومة السورية حكمتها السياسة الإيرانية، مضيفاً أن طهران اتجهت للاستثمار في سوريا بسبب العقوبات المفروضة عليها، وبالتالي رأت أن سوريا تكون لها موطئ قدم وبديل استراتيجي للتخلص من العقوبات.
ولا يعتقد أن الاستثمار الاقتصادي لإيران في سوريا يرقى إلى أن يكون شراكة، ووصف ذلك بأنه “استغلال اقتصادي” للتخلص من العقوبات عبر أذرعها في سوريا.
سداد الديون
يشير القاضي إلى أن تكلفة اشتراك إيران في الصراع السوري وصلت إلى حوالي 50 مليار دولار أميركي، لذا تعمل طهران لتعويض هذا المبلغ، واستحوذت على مناطق نفطية وشركات وقطاعات تجارية.
واستحوذت إيران على قطاع النفط والثروات الباطنية، وتستفيد من تصديرها سواء بالتهريب أو عبر الموانئ السورية، كما تعمل على تصدير منتجاتها عبر تلك المنافذ التي تستخدمها للبضائع السورية خاصة، ترى طهران أن لديها موطئ على البحر المتوسط، وفق قوله.
ومؤخراً مددت الحكومة السورية عقد استثمار محطة حاويات ميناء اللاذقية لشركة الشحن الفرنسية “CMA CGM”، لخمس سنوات أخرى، والذي بدأت أحلام إيران بالحصول عليه منذ تشرين الثاني/أكتوبر 2019 عندما انتهى عقد الشركة الفرنسية الذي وقعته منذ 2009، لتستكمل طريق الحرير الصيني.
ومنذ 2019، مارست طهران ضغطاً على الحكومة السورية في سبيل الحصول على عقد استثمار في الميناء، لكن دمشق رضخت لتهديدات أخرى بمنع إيران من التواجد على الساحل السوري، خاصة مع التصعيد الإسرائيلي الأخير على إيران وأذرعها.
ويرى القاضي أن الاتفاقات الاقتصادية تخدم إيران أكثر من سوريا، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وحتى التركيبة السكانية، “نظراً لوجود أعداد كبيرة من الإيرانيين، وذلك يخلق بيئة مذهبية لطهران، وهذا له تأثيرات مستقبلية عكسية على الشعب السوري”.
وفي عام 2019، زادت إيران من هيمنتها على الاقتصاد السوري عبر توقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي الاستراتيجي طويل الأمد مع الحكومة السورية. ووصف رئيس الحكومة حينها، عماد خميس، هذه الاتفاقية بأنها “محطة تاريخية” وذلك خلال توقيعها.
وفي بداية 2013 تلقت الحكومة السورية قرضاً من إيران قيمته مليار دولار أميركي، ووقعت في تموز/ يوليو من العام نفسه، للحصول على قرض ثانٍ بقيمة 3.6 مليار دولار، لاستيراد المشتقات النفطية ودعم الليرة السورية.
أما القرض الثالث فكان في أيار/مايو 2015، عندما وافق مجلس الشعب على إبرام اتفاق مع إيران حول فتح خط ائتماني جديد قدره مليار دولار.
واستطاعت طهران الهيمنة على الاقتصاد السوري وتوقيع اتفاقات في شتى المجالات كفاتورة لها على دعمها لدمشق. وجعلت هذه الاتفاقيات الاقتصاد السوري رهن طهران التي أصبحت تتحكم فيه لعشرات السنوات، ورسخ الارتباط الاقتصادي بين الطرفين.
غياب التخطيط واتفاقيات شخصية
يعزو الاستشاري الاقتصادي السوري شادي أحمد، فشل مشاريع اقتصادية بين طهران ودمشق إلى أن الدراسات الاقتصادية ودراسات الأسواق “لم تكن متقنة بين البلدين”، واعتمدت على الرغبات، لكن ذلك غير كافي في قطاع الأعمال.
وكان لا بد من وجود مركز اقتصادي سوري إيراني يضم خبراء وباحثين يستطيعون أن يضعون المشاريع الاقتصادية على الأرض بموجب مؤشرات مباشرةً، وهذا ما سبب بفشل معمل “سيفكو” للسيارات، وبعض المشاريع المتعطلة وأخرى لم تنجز كمعمل صناعة الزجاج، وفقاً لأحمد.
اقرأ أيضاً: دولار وأسعار وتجار: السوريون بلا “خبزة” ولا “زيتونة”!
ويضيف لـ”963+” أن هناك علاقات تاريخية بين الحكومتين السورية الإيرانية في المجالات السياسية، لكن فشلت الحكومتان بالتعاون الاقتصادي بسبب البيروقراطية الشديدة، والتي جعلت مشاريع من الممكن أن تنعكس إيجابياً على البلدين طي الأدراج، وبالرغم من الاتفاقات الكبيرة إلا أنها بقيت دون تفاصيل فنية.
كما يتحمل رجال الأعمال في البلدين جزءاً كبيراً من المسؤولية، لأن العلاقة اقتصرت على التنسيق المباشر والصفقات الشخصية دون تنسيق بين السوقين، ولم يعتمد قطاعي الأعمال على الفكر الاستراتيجي، في حين يحتاج كل طرف لمنتجات من الطرف الآخر.
كما أعاقت العقوبات على البلدين، تنفيذ هذه الاتفاقيات على أسس وأصول التجارة الدولية، ويعتقد أحمد أن تلك العقوبات استهدفت عدم تنفيذ الاتفاقات الاقتصادية بشكل يستفيد منه الجانبين.
ويرى الخبير الاقتصادي، “ضرورة إعادة هيكلة وإصلاح العمل في غرفة التجارة السورية الإيرانية التي تضم مجموعة من رجال الأعمال، كونها لم تؤدي إلى الآمال الكبيرة المرجوّة منها، لتكون المنصة التي يتم العمل منها بموجب العلاقات بين البلدين”.