أصوات كثيرة يمكن أن تكون قد انتهكت حرمة رأسي ورؤوس كثيرين في الأشهر الأخيرة، أبرزها ربما صوت الخوف. إنه صوت يقودك لتختبئ في الخزانة أو تحت السرير، أو قد يدفعك للبكاء ساعةً متواصلة من دون سبب واضح، وقد يحدث أن يُجلسك الخوف في بيتك أسيره لأيام أو أشهر، ترتعب إذا قُرع جرسك أو هبّت ريح أو سُمع زمّور.
الزمامير في كل حال، جحيم يوميّ آخر، ذلك أنني فقدت صبري تقريباً ولم أعد أصلح لقيادة سيارة أو دراجة هوائية أو حتى السير على قدميّ في شوارع بيروت المجنونة. إن لم تقتلني هذه الحرب، فقد تفعل الزمامير، أقول لنفسي كلّما جلست خلف المقود.
حين نكتب في السياسة، يخرج سريعاً من يطالبنا بالهدوء والصمت لأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وحين يعلو الأخير، يعلو معه الخوف، فنسكت ونتكوّر وننعزل في حزننا منتظرين مصيرنا.
حين نغضب، يأتي من يهدّدنا بالقصاص بعد انتهاء الحرب، وحين نحارج، هناك من يقصفنا من الجهة الأخرى، فيعلو صوت المعركة مجدداً.
في ذاك الجنون كلّه، مرّ خبر ناعم ومن خارج الصندوق، قال إن فيروز قد بلغت عامها التسعين. ما أجمل هذا الخبر! كنا نظنّ أننا لن نقرأ خبراً من هذا النوع بعد الآن، كنا نظنّ أن عواجل الحرب وإنذارات أفيخاي أدرعي قد سيطرت علينا كلياً، لكن لا بأس ففيروز كبرت عاماً، برغم هذا كلّه. فيروز كبرت ونحنا ما زلنا أحياء ونعيش في زمن “ريما” و”لولو السويعاتية” والملكة بترا، وبنت الحارس، وراجح.
فيروز ناهزت التسعين وهي هنا معنا، إذاً لسنا وحدنا من يحلم هنا. يمر الخبر بين جنون القصف ومفاوضات وقف إطلاق النار الفاشلة، فيما يقطع المبعوث الأميركي المسافة من بيروت إلى تل أبيب حاملاً ملفنا وكوب قهوة، اشتراه من “ستاربكس” في بيروت…
اقرأ أيضاً: مسلسل “لعبة حب”: لا بأس ببعض الكوميديا والتسطيح!
هكذا إذاً، وبرغم كل شيء، نحتفل بعيد ميلاد فيروز، بوسعنا أن نخفض صوت المعركة والجدالات السياسية، حتى نغني من جديد ومعاً: “إسوارة العروس مشغولة بالدهب وإنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب”. لقد أبكتني هذه الأغنية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أكثر من مئة مرة ربما، كانت جراح الجنوب تخرج من عينيّ كينابيع دم، لا دمع فيها. وها هي تبكيني للمرة الأولى بعد المئة، وقد ناهزت فيروز التسعين، حتى إنني في تلك الدقائق القليلة، لم أسمع أي زمامير، ولم أشتم أياً من السائقين… “رسايل الغيّاب مكتوبة بالدهب”.
لم تستقر علاقتي بفيروز أبداً، كنا نبتعد ونعود، أهجر أغانيها أحياناً غاضبة من فرط الرومانسية والمثالية، ثم أعود بعد هنيهة وقد اشتقت لبعض الدفء والبساطة، أتسلّق مسرحياتها مرّة أخرى، أبحث عن أغانيها، “كيفك إنت”، “بيتي الزغير بكندا”، “طلعلي البكي”، أقبّل الأغاني وأعدها بأن أمكث أكثر. ألبس ثياب النوم، أبحث بين الكلمات عن وجهي، وبين الألحان عن صوتي، أتمدّد وأسترخي وكأنني وصلت لتوّي إلى البيت.
لكنني أذهب وأعود، كالأطفال المشاكسين، تسحبني التيارات وتأخذني الرياح، تارة أعلق في “هيلينا سيغارا”، وطوراً أتشبّث بصوت نجاة الصغيرة من أجل النجاة، وفي أحيانٍ أخرى أتعقّب الأغاني الهابطة الجديدة حتى لا أحسب نفسي غريبة عن حفلات التفاهة الاجتماعية والفنية المستمرة.
الآن، في الحرب التي سجنتنا في بيوتنا، نعمل ونطبخ ونحاول أن نعيش بين الجدران الأربعة، عدتُ إلى رفقة فيروز بجدّية وباستغاثة، “أنا متعبة أيتها الأغاني، عانقيني”. عدتُ إلى زمن صنعته هي والرحابنة، وإن كان مجرد وهم وخيالات شاعرية، لكن المطارح التي اقترفتها مسرحيات فيروز وأغانيها، وإن كانت وهماً، إلا أنها طريق ممكن لالتقاط النفس المقطوع والأمل.
حين لا يعلو صوت على صوت المعركة، فلنسمع فيروز، لا أحد يستطيع قصف الأغاني!