خاص ـ داليا عبدالكريم/ دمشق
تشهد سوريا منذ شهر أيلول/ سبتمبر أزمة نقل خانقة تفاقمت بعد قرار تخفيض مخصصات الوقود لباصات النقل الجماعي بنسبة 50% في العديد من المحافظات. ورغم التصريحات الرسمية التي وعدت بحلول قريبة، لا يزال الواقع على الأرض يعكس معاناة يومية للسوريين، مع مشاهد الازدحام والتدافع التي أصبحت مألوفة في محطات النقل.
في كراج طرطوس، وقف “حسين”، مدرس اللغة العربية البالغ من العمر 29 عاماً، لأكثر من ساعتين في انتظار وسيلة نقل تعيده إلى قريته ميعار شاكر. يروي حسين لـ”963+” أن هذا الانتظار أصبح جزءاً من يومياته، لكنه يتحدث بغصة عن سائقي الباصات الذين يطالبون بأجور زائدة تصل أحياناً إلى ضعف التعرفة الرسمية. يقول: “راتبي الحكومي لا يتجاوز 450 ألف ليرة، (ما يعادل 30 دولار أميركي) وما يتبقى منه بالكاد يكفيني لدفع أجور المواصلات وفنجان قهوة يومي”.
أزمة ممتدة وتدابير محدودة
بدأت الأزمة مع قرار تخفيض المخصصات في محافظات عدة، منها اللاذقية، دمشق، وحمص، إلى 50%. ورغم إعلان بعض المسؤولين في الحكومة السورية، عن إلغاء التخفيض، لم يلمس السكان أي تحسن يذكر. آصف حسن، عضو المكتب التنفيذي لقطاع النقل في اللاذقية، قال في تصريحات صحفية في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أن المخصصات عادت لمستواها السابق، إلا أن ذلك لم ينعكس إيجاباً على أرض الواقع.
وتزامنت هذه الأزمة مع افتتاح المدارس ورياض الأطفال، مما زاد الضغط على وسائل النقل. وبدلاً من التزام السرافيس بخطوطها، وجد كثير من السائقين فرصاً أكثر ربحية في التعاقد مع مؤسسات خاصة، تاركين الركاب لمواجهة صعوبات التنقل.
اللاذقية: الإجازة المرضية حلّ لمعضلة النقل
في اللاذقية، لم تجد إلهام، الموظفة الحكومية البالغة من العمر 32 عاماً، حلاً لمعاناتها اليومية مع النقل سوى اللجوء إلى إجازة مرضية. تقول إلهام لـ”963+”: “لا أعاني من أي مرض سوى مرض الانتظار في الطرقات”.
إلهام، الأم لطفلين تضطر للخروج قبل ساعة ونصف صباحاً لضمان الوصول إلى عملها، لكنها غالباً تصل متأخرة. طريق العودة أكثر إرباكاً، حيث قد يستغرق ساعتين أو أكثر للوصول إلى منزلها في حي الدعتور.
إلهام ليست الوحيدة التي تعاني، فطلاب الجامعات مثل “حيدرة”، الطالب في كلية هندسة العمارة، يواجهون مشقة يومية أيضاً. يقول حيدرة لـ”963+”: “أحياناً أضطر للنزول من الباص إذا طالب السائق بأجرة أعلى من الرسمية”.
معاناة السائقين: بين المخصصات والتكاليف
السائقون بدورهم يرون أن الأزمة لا تقتصر على الركاب. سامر، وهو سائق يعمل على خط اللاذقية-الحفة، يشير إلى أن المخصصات اليومية من المازوت أصبحت لا تكفي سوى لثلاث رحلات ذهاباً وإياباً، إذ كانت قبل التخفيض 31 ليتراً من المازوت وصارت 20 ليتراً فقط، وبعد تغطية نفقات الصيانة والضرائب، لا يتبقى له سوى مبلغ ضئيل لا يكفي لتغطية احتياجات أسرته.
أي أنه سيدفع 40 ألف ليتر مازوت ويعمل 3 نقلات، إيجار كل نقله “ذهاباً وإياباً” 56 ألف ليرة (4 دولارات تقريباً)، أي بصافي ربح يومي 128 ألف ليرة (9 دولارات تقريباً)، وهو “مبلغ لا يشتري دجاجة”، على حد تعبير الشاب.
ومع ذلك فإن 128 ألف ليرة المتبقية للسائق لا تعتبر أرباحاً صافية، فهو يحتاج للادخار منها لتغيير زيت المحرك بمعدل مرتين شهرياً، كلفة كل مرة 60 ألف ليرة (4 دولارات تقريباً)، إضافة إلى إصلاح الفرامل كل شهرين بسعر 250 ألف ليرة (نحو 17 دولاراً)، والضريبة السنوية مليون و300 ألف ليرة (90 دولاراً تقريباً)، وإطارات كل سنة بمعدل 6 مليون ليرة (415 دولاراً تقريباً).
إضافة إلى الروضة، فإن “سامر” متعاقد من شماعة لتوضيب الحمضيات، بأجر شهري 9 ملايين ليرة، يذهب منها وفق الشاب نحو 3 ملايين ليرة (نحو 208 دولارات) ثمن مازوت من السوق السوداء ويتبقى له 6 ملايين ليرة.
ويشتري سامر المازوت من السوق السوداء بيدون المازوت سعة 20 ليتراً بسعر 350 ألف ليرة (24 دولاراً)، ليؤمن وقود التعاقد مع الروضة، التي تمنحه 4 مليون شهرياً (275 دولاراً تقريباً)، يذهب منها مليون ليرة (69 دولاراً) فقط، ثمن وقود من السوق السوداء.
لذلك، يفضل سامر شراء المازوت من السوق السوداء رغم ارتفاع ثمنه، والتعاقد مع جهات خاصة مثل روضات الأطفال أو شماعات الحمضيات، حيث يحقق دخلاً ثابتاً ومجزياً يصل إلى 9 ملايين ليرة شهرياً. يقول سامر لـ”963+”: “إذا عملت وفق مخصصات الدولة سأكون خاسراً، لذا اخترت العمل بشكل يضمن لي دخلاً كافياً”.
دمشق: ازدحام واستغلال
في العاصمة دمشق، تبدو الصورة أكثر تعقيداً. مشهد الركاب المتكدسين في محطات النقل أصبح معتاداً، في ظل استغلال بعض السائقين للأزمة عبر رفع أجور النقل إلى أضعاف التعرفة الرسمية.
ياسمين، موظفة في محل ألبسة بسوق الحمرا، تضطر يومياً للوقوف لساعات طويلة في انتظار وسيلة نقل. تقول ياسمين لـ”963+”: “بعد ساعتين من الانتظار تحت جسر الرئيس، أضطر لاستخدام تاكسي سرفيس بأجرة تصل إلى 15 ألف ليرة رغم أن المسافة لا تزيد عن 3 كيلومترات”.
ظاهرة “التاكسي سرفيس” انتشرت بشكل كبير في العاصمة، حيث يرفض أصحاب التكاسي الالتزام بالتعرفة الرسمية، مستغلين حاجة الناس الماسة للتنقل.
وخلال أزمة النقل الحالية رفع السائقون أجرتهم، على سبيل المثال كانت أجرة التاكسي سرفيس من جسر الرئيس وحتى ضاحية قدسيا 18 ألف ليرة وباتت اليوم 25 ألف ليرة، وأجرة خط مشروع دمر مساكن الحرس كانت 10 آلاف ليرة وباتت بين 15 إلى 20 ألف ليرة.
محاولات رسمية لا تكفي
حاولت بعض المحافظات تقديم حلول مؤقتة، مثل تشغيل باصات النقل الداخلي في الأرياف وأيام العطل، لكن هذه الجهود لم تكن كافية لحل الأزمة. في الوقت نفسه، بدأ توزيع مازوت التدفئة على العائلات بمعدل 50 لتراً، ولكن بسعر ارتفع مؤخراً من 2000 إلى 5000 ليرة لليتر، مما زاد من الضغوط على المواطنين.
عضو المكتب التنفيذي لقطاع النقل والمواصلات في دمشق، عمار غانم، أشار في تصريح إذاعي مؤخراً إلى أن الأزمة معقدة. قال: “نحن واقعون بين حدين؛ ندرك الوضع المادي المحدود للمواطن، وفي الوقت نفسه نعلم أن السائقين قد يكونون محقين في طلباتهم”.
بين تدافع الركاب في المحطات ومعاناة السائقين مع المخصصات، تبدو أزمة النقل في سوريا كأحد أوجه المعاناة اليومية التي يعيشها السوريون. حلول مؤقتة هنا وهناك قد تخفف العبء قليلاً، لكنها لا تعالج جذور المشكلة التي تحتاج إلى سياسات مستدامة لتحسين الواقع الخدمي والاقتصادي.