دمشق
بين تعقيدات أمنية واقتصادية، تستمر معاناة اللاجئين السوريين العائدين من لبنان إلى سوريا، حيث يواجه هؤلاء العائدون تحديات خطيرة تهدد أمنهم وسلامتهم في بيئة لا تزال بعيدة عن مفهوم “العودة الآمنة”. بينما تشير أصوات دولية ومحلية إلى ضرورة وضع حد للانتهاكات التي يتعرض لها العائدون، يشهد الاتحاد الأوروبي نقاشات مكثفة حول إعادة تفعيل التواصل مع النظام السوري كخطوة قد تُسهم في تسهيل عودة اللاجئين.
في كلمته الأخيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أشار باولو بينيرو، رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، إلى أن الوضع الأمني في سوريا لا يزال يشكل تهديداً حقيقياً على حياة السوريين العائدين، واصفاً البلاد بأنها لا تزال في حالة “صراع كارثي”.
وقد أعرب بينيرو عن قلقه من عدم توافر الحماية الأساسية للعائدين، وتعرضهم لمخاطر تشمل الاعتقال التعسفي، والتجنيد الإجباري، والابتزاز عند نقاط التفتيش التي تديرها مجموعات مسلحة متعددة.
وأكد على ضرورة توفير حماية إنسانية للعائدين ومنحهم الثقة في أي وعود تُقدم حول سلامتهم، وهو أمر يتطلب إشرافاً دولياً فعالاً لضمان حماية حقوق الإنسان داخل سوريا.
ويضاف إلى هذه التحديات حالة انعدام الاستقرار الأمني التي تسود البلاد، حيث تشن الحكومة السورية، بدعم من حلفائها، عمليات قصف جوي وبرّي على مناطق شمال غربي البلاد، مما أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى من المدنيين، وإجبار مئات العائلات على النزوح مجدداً في داخل البلاد.
ويقول بينيرو: “إن هذه العمليات تفاقم معاناة المدنيين وتضيف طبقات جديدة من المخاطر والاضطهاد”.
اللاجئون في لبنان بين الخطر الداخلي وقيود العودة
على الرغم من الصعوبات التي يعيشها اللاجئون السوريون في لبنان، التي تزايدت في السنوات الأخيرة بسبب التوترات الأمنية والتدهور الاقتصادي في لبنان، فإن العودة إلى سوريا ما زالت تمثل قراراً محفوفاً بالمخاطر.
ووفقاً لتقرير صدر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”، يواجه اللاجئون العائدون من لبنان خطر الاعتقال التعسفي والانتهاكات على يد السلطات السورية، بما في ذلك التعذيب والإخفاء القسري. كما وثقت المنظمة العديد من حالات الاعتقال التي طالت اللاجئين عند المعابر الحدودية، مشيرة إلى أن هؤلاء يفتقدون للضمانات اللازمة التي تكفل لهم عودة آمنة وكريمة إلى بلادهم.
ويقول آدم كوغل، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”: “إن السوريين الذين يعودون من لبنان يواجهون تحديات خطيرة تشمل الاعتقال التعسفي والانتهاكات التي قد تصل إلى حد القتل تحت التعذيب، مما يستدعي وضع آلية فعّالة للمراقبة والرصد”.
ويأتي هذا الوضع الإنساني المعقد في وقت تُناقش فيه بعض الدول الأوروبية إمكانية التواصل مع الحكومة السورية من جديد، حيث يضغط عدد من أعضاء الاتحاد الأوروبي، بقيادة إيطاليا والنمسا، من أجل إعادة تقييم العلاقات مع دمشق بهدف خلق الظروف المناسبة لعودة اللاجئين بطريقة “آمنة ومستدامة”.
وقد أرسل وزراء خارجية عدد من الدول الأوروبية، من بينها إيطاليا، وكرواتيا، وسلوفينيا، رسالة إلى جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، يطالبون فيها بدور أكثر فعالية للاتحاد الأوروبي في سوريا، بما يعزز النفوذ السياسي للاتحاد ويسهل تقديم المساعدات الإنسانية.
ومع أن الاتحاد الأوروبي يواصل رسمياً فرض عقوبات اقتصادية على الحكومة السورية منذ عام 2011 بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإن هناك حديثاً متزايداً عن إمكانية تعيين مبعوث خاص لسوريا، يكون بمقدوره التواصل مع الجهات الفاعلة السورية والدول المجاورة، بالإضافة إلى بحث تأثير العقوبات على الشعب السوري وإمكانية تخفيفها في بعض الحالات الإنسانية.
وقد أثارت هذه الخطوة انقساماً بين الدول الأوروبية، حيث تعارض فرنسا بشدة أي محاولة لتخفيف الضغط على الحكومة السورية، بينما تؤيد دول أخرى، بقيادة إيطاليا، الانفتاح على دمشق لتهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين إلى وطنهم.
ردود الفعل المتباينة وتحديات تطبيق العودة الآمنة
الحديث عن العودة “الآمنة والطوعية” للاجئين السوريين أثار ردود فعل متباينة، خاصة بين المنظمات الحقوقية التي وثّقت انتهاكات متعددة بحق العائدين.
وتشير منظمات مثل “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إلى ارتفاع عدد حالات الاعتقال والاختفاء القسري بين اللاجئين العائدين، مما يجعل العودة إلى سوريا أمراً محفوفاً بالمخاطر. ووفقاً للشبكة، تم اعتقال 208 عائدين خلال العام الجاري، بينهم نساء وأطفال، في حين توفي بعضهم تحت التعذيب في مراكز الاحتجاز.
وقد أشار المسؤولون في “الشبكة” إلى أن غياب آليات الحماية والمراقبة الدولية يزيد من تفاقم الوضع الإنساني للعائدين. وبهذا السياق، دعت المنظمات الحقوقية الدول المضيفة إلى الامتناع عن ترحيل اللاجئين قسراً وتوفير الدعم الإنساني لهم في البلدان المضيفة.
يرى مراقبون أن التحركات الأوروبية التي تقودها إيطاليا نحو إعادة فتح قنوات التواصل مع النظام السوري ليست معزولة عن الواقع الجيوسياسي الأوسع في المنطقة. فالضغوط الأوروبية تجاه الحكومة السورية تتزامن مع تزايد النفوذ الروسي والإيراني في سوريا، إلى جانب التمدد التركي المتزايد في المناطق الشمالية من البلاد.
وترى بعض الدول الأوروبية أن تفعيل التواصل مع دمشق قد يكون خطوة ضرورية لتعزيز النفوذ الأوروبي في سوريا، وموازنة تأثير الدول الإقليمية الأخرى التي تدعم الحكومة.
لكن هذه الجهود تصطدم بمعارضة أميركية ضمنية، حيث تواصل الولايات المتحدة فرض عقوبات على دمشق بموجب “قانون قيصر”، الذي تم تمديده حتى عام 2028، ويشمل إجراءات اقتصادية مشددة تهدف إلى الضغط على الحكومة السورية، ومنعها من استغلال أموال إعادة الإعمار دون تحقيق إصلاحات جوهرية.
أبعاد إنسانية معقدة ومطالب بضمانات دولية
بالإضافة إلى الأبعاد السياسية، تبرز البعد الإنساني لأزمة اللاجئين السوريين بوضوح، خاصة في ظل تقارير تشير إلى سوء الأوضاع المعيشية داخل سوريا، ما يدفع العديد من السوريين للتفكير في الهجرة مجدداً، بدلاً من الاستقرار في مناطقهم الأصلية.
ونتيجة لغياب الاستقرار، لا يزال 1.7% فقط من اللاجئين السوريين في لبنان يعبرون عن نيتهم في العودة إلى سوريا على المدى القصير، وفقاً لتقرير المفوضية العليا للاجئين.
ودعت “هيومن رايتس ووتش” وغيرها من المنظمات الحقوقية إلى إنشاء آلية دولية مستقلة قادرة على مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان داخل سوريا، بما يضمن سلامة العائدين. كما حثت هذه المنظمات الدول المانحة على تجنب تقديم حوافز مباشرة لعودة اللاجئين دون ضمان شروط آمنة وكريمة.