ليس المسرح مساحة للعرض فحسب، إنما هو حياة بطولها وعرضها، يعيشها كل من يقف على خشبته أو يعمل خلفها، ليحققوا معاً تجربة تغني روح الفنان، وتنير عقول الجمهور. والمسرحي الحقيقي هو ذلك العاشق الذي يتنفس الفن المسرحي بكل حواسه، ولا يهتم بعدد الجمهور الحاضر، فالمهم أن يقدم عرضاً يُرضي روحه ويمنحه الإحساس بأنه أدى مهمة إنسانية وثقافية تامة. إنه يبحث عن تلك اللحظة التي يغمر فيها التصفيق الحار أجواء المسرح، ليشعر أن رسالته وصلت وأن روحه انتشت بتفاعل إيجابي من الجمهور.
اليوم، فرضت وسائل التواصل الاجتماعي نفسها على كافة المجالات، بات السؤال المطروح هو: هل بقي مسرحٌ له جمهور وله مؤلفون وفنانون وخشبة؟
أهي الحرب وحدها؟
ينظر محمد أشرف، الممثل المسرحي من القامشلي، إلى خشبة المسرح، ويقول لـ”963+” بحرقة: “لطالما كان للمسرح أهمية لا حدود لها، ولطالما كان بوصلةً توجّه تمدّن المجتمعات، ومعياراً لبناء وعي الإنسان وتمتّعه بالمعرفة”.
ثمة محاولات جادة يبذلها بعض المسرحيين في شمال وشمال شرق سوريا بعد الحرب السورية، “ونشهد اليوم مخاضاً أليماً من دون ولادة طبيعية. المحاولات دائمة والمبادرات مستمرة، والمسرحيون الشباب يرفضون اليأس، لكن بقيت محاولاتهم ومبادراتهم خجولة أسيرة الجدران، لا حول لها ولا قوة.. لا دعم ولا مساندة”، كما يقول.
يرى المسرحي والروائي محمد الحفري أن الناس تؤمن اليوم بالصورة أكثر مما تؤمن بالحركة، “والصورة متاحة، تصلهم في بيوتهم ومكاتبهم وسياراتهم، والشاشات الكبيرة والصغيرة تلاقي اهتماماً أكثر مما يجده المسرح”، كما يقول لـ”963+”. ويضيف الحفري المتحدر من القنيطرة والمقيم في دمشق: “لهذا ينكفئ الجمهور على المسرح”، فيما ينظر المخرج وليد عمر من القامشلي إلى هذه المسألة من منظور مختلف. يقول لـ”963+”: “لا يحظى المسرحيّ بأي احترام، والإعلام يغيّب جهوده، فيبقى مجهولاً مغموراً”.
أسباب تراجع المسرح السوري كثيرة، يتعلق بعضها بالذهنية الحزبية، وأخرى بتردي الوضع الاقتصادي، وهروب المسرحيين واغترابهم. يقول أشرف: “بقيت الآمال تراود المسرحيين للنهوض بالمسرح، إلا أن العراقيل لا تنتهي، ويبقى المسرح السوري… في انتظار غودو”.
حقائق كالشمس
في نظر الحفري، الحقيقة واضحة كالشمس: “المسرح يحتاج مالاً، والمال في خزائن الجهات المعنية والراعية للمسرح، وهذه الجهات تقصّر في أداء واجباتها، لأن المسرح ليس أولية حياتية بالنسبة إليها… في المقابل، المسرح يحتاج نصاً جيداً، وإنتاج نص جيد يحتاج كاتباً جيداً يشعر بمرارة السوريين، فيقدم نصاً يمسّهم ويشرّح مشكلاتهم”. ويضيف: “لدينا مديرية للمسارح والموسيقى، إنها لا تهتم بنا نحن المسرحيين، وحجهم صارت معروفة: الإمكانيات ضعيفة، الفكرة لا تلائم التوجّهات المطلوبة، وغير ذلك”.
النص هو العمود الفقري لأي عمل درامي، “ونحن نحتاج إلى مخرج يعرف كيف يتعامل مع النص بحرفية، وإلى ممثل موهوب ينفذ تعليمات المخرج بحرفية”، كما يقول الدكتور حمدي موصلي من اللاذقية، مضيفاً لـ” 963+”: “المسرح السوري، كما المسرح العربي، مصاب بداء إدارة الظهر للمحيط، وتنفيذ العرض المسرحي من خلال الاستجداء بنصوص مسرحية مترجمة في أغلبيتها. قد تتقاطع همومنا مع الهموم المترجمة، لكنها لا تحمل خصائصها. والنصوص المحلية اليوم تقوم على حالات افتراضية قد تلامس الواقع المعاش، لكنها لا تخدشه حتى”.
ويعقب الحفري: “الحجة التي تُساق دائماً هي عدم توافر نصّ محلّي، وهذا الكلام غير صحيح… والموظف الذي يقوم بدور المخرج لا يكلف نفسه عناء البحث والسؤال عن نص مسرحي”.
يحتاج إلى الحرية
ثمة من يذهب مذهباً أبعد… يعترف الحفري بأن الحرب السورية قسمت المجتمع، “فتشظّت الكتابة وتحول النص أنقاضاً، فالشروخات الكبيرة التي أحدثتها الحرب في النصوص لا تختلف عنها في أي بيت، فالكتابة في النهاية تقدم وجهة نظر كاتبها ومخرجها ورعاتها”.
يضيف: “نلاحظ الهوة السحيقة بين ما أنتج في داخل البلاد وخارجها، وقد نستثني المسرح قليلاً من هذا التشظي، فربما انقذته صعوبة إنتاج عرض مسرحي لما يحتاجه من مستلزمات، ولذلكَ تملصت أغلب عروض الداخل من التعرض لصعوبات الحياة ومواجهة التحديات، وربما تكون عروض الخارج أقوى في طرحها وجرأتها، فيما حاولت عروض الداخل أن تلوح من بعيد لما يحدث على أرض الواقع من دون أن تدخل في عمقه. وقد هرب أغلب عروض الداخل إلى التعامل مع نص عالمي بحجة إنسانيتها”.
ويقول الممثل المسرحي فواز محمود لـ”963+”: “كانت العروض المسرحية ’الاجتماعية‘ أقرب إلى تطلعات الجمهور مما يكتب في الخارج، بغض النظر عما إذا كانت مترجمة من عروض عالمية أو عربية أو سورية كنص ’البئر المهجورة’ لفرحان بلبل، و’كلب الآغا‘ لممدوح عدوان، و’الفيل يا ملك الزمان‘ لسعد الله ونوس، لأنها كانت تترجم الواقع والصعوبات اليومية، وتتميز بالجرأة في طرح الموضوعات”.
ويعقّب الحفري: “النص المسرحي في الداخل يخضع لرقابة أولى في بدايته، ولرقابة أخرى في أثناء البروفات، ولرقابة ثالثة قبل تقديمه للجمهور. أوهنت هذه الرقابات المتتالية العروض المسرحية، وجعلتها بعيدة عن ذائقة الجمهور، فتفقد تألقها خصوصاً حين تأتي من أشباه مبدعين، أو لنقل من موظفين لا يعرفون إلى المنع والحذف”، مؤكداً أن المسرح السوري اليوم يحتاج إلى الحرية والانفتاح، “وإلى عقول راجحة تؤمن بأهميته في دفع عجلة الحياة وتطورها، وإلى قلوب واسعة تنظر إليه بمحبة كي يتألق”.
أزمة عالمية
يقول الممثل السوري يوسف المقبل “إن المسرح يعيش أزمة عالمية في ظل تحديات التكنولوجيا والثورة الإعلامية، والمسرح السوري جزء من المسرح في العالم، ولا بد من أن يتأثر بذلك”، مضيفاً لـ”963+”: “رغم ذلك، شهدت السنوات الأخيرة نهضة مسرحية مميزة في دمشق والمحافظات السورية، وحقّق المسرح السوري حضوراً عربياً في مشاركاته بأيام قرطاج المسرحية ومهرجان القاهرة التجريبي ومهرجان بغداد الدولي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح… وكانت مشاركات السورية مميزة”.
يصف محمد بيجو، من القامشلي، بأنه “هاوي تمثيل”، يقول لـ”963+”: “الوضع الفني في منطقتنا يزداد سوءاً عاماً بعد عام. يقل الاهتمام بالمسرح بشكل ملحوظ، ونضطر غالباً للعمل بإمكانيات محدودة جداً، مع قلة قليلة من المدربين المؤهلين والأساتذة المتخصصين في مجال المسرح، ما يجعل تطوير مهاراتنا بشكل منهجي أمراً صعباً”.
يؤيد المسرحي عبد الرحمن إبراهيم، الذي ينحدر من القامشلي، بيجو فيقول لـ “963+”: “انجذاب الشباب للعمل في المسرح يحتاج أولاً لتحقيق الشاب أو الشابة ذواتهم، وتلبية متطلباتهم السيكولوجية، وهذان الشرطان غير متوفرين حتى اللحظة”.
دعم وآمال.. وأحلام
المسرح مرآة المجتمع… شعار تسمعه كثيراً في ورشات العمل التكوينية للمسرحيين الشباب، ومن هذا المنطلق تقوم هيئة الثقافة في مقاطعة الجزيرة، بالتعاون مع حركة الثقافة وكومين المسرح، بتقديم الدعم المادي والمعنوي اللازم لإقامة مهرجان المسرح ودعم الأعمال المسرحية وتنظيم مسابقات للنصوص المسرحية، مع التركيز على المواضيع التي تعالج قضايا المجتمع.
تقول فريال جولي، الرئيسة المشتركة لهيئة الثقافة في مقاطعة الجزيرة، لـ”963+”: “غياب صالات عرض مهيئة تقنياً، وتردي الوضع الاقتصادي، وضعف الإمكانات المادية، وتراجع اهتمام المجتمع بالمسرح، وعزوف الممثلين عن العمل المسرحي، مشكلات تضع المسرح كنوع أدبي على الرفّ”.
ما قالته جولي صحيح.. وهذا ما يولّد خيبة في نفوس ممثلات اختلان خوض مغامرة المسرح، متحديات العادات والتقاليد والموروث المجتمعي، كالممثلة المسرحية ديانا أحمد من القامشلي، والممثلة المسرحية هيفيدار شيخ سعدون المقيمة في دمشق. فقد كسرتا الصورة النمطية للمرأة السورية، ولعبتا أدواراً مسرحية “لتوعية المجتمع وإيصال رسالة تخاطب الجمهور والمجتمع سوياً”، كما قالتا لـ”963+”، لكن… هنا يتوقف شغفهما، وشغف أجيال من الممثلين والممثلات الذين اختاروا الخشبة على أي وسيلة تعبير أخرى. فهل انتهى الحلم؟