خاص ـ دمشق
بات حي المزة في دمشق مشهداً معقداً للحياة المدنية المختلطة بالعسكرة المتزايدة؛ حيث لم يعد حيّاً سكنياً هادئاً بقدر ما أصبح ساحة للصراع الإقليمي المكثف. توالت الضربات الجوية الإسرائيلية على الحي خلال الأشهر الأخيرة، مستهدفة قيادات لـ”حزب الله” اللبناني و”الحرس الثوري” الإيراني الذين اتخذوا من بعض أبنيته مراكز للعمليات، الأمر الذي جعل هذا الحي الدمشقي، المعروف برقيّه وموقعه الاستراتيجي، يعيش تحت وطأة التوتر والخوف.
يقول مالك (اسم مستعار)، الذي قرر مؤخراً بيع منزله وهو طابق أول ويقع في خلف فندق الارت هاوس بحي المزة، نتيجة الاستهدافات المتكررة، إنه خفض سعر بيته بعد أن عجز عن العثور على مشترٍ وسط تراجع الطلب وازدياد العرض.
يضيف مالك، لموقع “963+” إنه “مضطر لبيع بيته والرحيل إلى خارج سوريا، مثل كثيرين ممن قرروا المغادرة تحت وطأة التوترات الأمنية المتصاعدة، خاصة بعد الضربات التي تركزت في مناطق المزة الغربية والفيلات”.
المزة بين الماضي والحاضر
حي المزة، الذي كان يوماً قرية هادئة في ضواحي دمشق، تحول إلى أحد أهم أحياء العاصمة، وشهد توسعاً عمرانياً كبيراً، يضم عدة مناطق مثل الفيلات الشرقية والغربية والشيخ سعد ومزة 86، ويمتد على مساحة 7750 هكتاراً، كما يضم الحي سفارات وهيئات دبلوماسية.
لكن هذا التحول لم يخلُ من الصراعات السياسية والأمنية التي غيّرت وجه المنطقة كلياً, مع تصاعد الحرب السورية منذ عام 2011، إذ برز الحي كوجهة جديدة لقيادات “حزب الله” والفصائل الإيرانية التي سعت لتعزيز نفوذها العسكري في دمشق.
منذ عام 2014، تضاعف حضور هذه القوى في المزة، ما جعله منطقة عسكرية جزئياً، في تناقض صارخ مع طبيعته المدنية السابقة، خاصة بعد أن استضاف العديد من السفارات والمقرات الرسمية.
يشرح خبراء أمنيون أن اختيار إيران للمزة كمركز لها “يرتبط بعدة عوامل استراتيجية؛ فهي منطقة جديدة نسبياً، تحتوي على سفارات ومباني حساسة، وقريبة من مطار المزة العسكري. هذا الموقع الجغرافي أتاح لهذه القوى التنقل بحرية ضمن أحياء دمشق، ما جعل المزة هدفاً دائماً للهجمات الإسرائيلية”.
وتعرضت السفارة الإيرانية للقصف، في مطلع إبريل/ نيسان الفائت، من قبل الجانب الإسرائيلي، ما أدى إلى تدمير مبنى ملحق بها ومقتل عدد من المستشارين العسكريين الإيرانيين أبرزهم العميد محمد رضا زاهدي قائد “فيلق القدس” بـ”الحرس الثوري” في سوريا، ونائبه العميد محمد هادي حاجي رحيمي.
وقتل في مطلع العام الجاري أربعة ضباط إيرانيين بارزين في قصف إسرائيلي استهدف مبنى سكنياً متعدد الطوابق كان يستخدمه الضباط وتشغله جهة تابعة لـ”الحرس الثوري”، في منطقة المزة في دمشق.
وشهدت منطقة المزة غارات إسرائيلية عدة الشهر الجاري، الأولى كانت مطلع الشهر حيث نفذت طائرات مسيّرة إسرائيلية ضربات جوية عبر دفعتين استهدفت سيارتين بالقرب من الحديقة الفرنسية وبالقرب أيضاً من مبنى تابع للسفارة اللبنانية في حي المزة بالعاصمة دمشق، تزامنت مع استهداف بطاريات دفاع جوي في مطار المزة، وأسفرت الضربات الإسرائيلية عن مقتل 5 مدنيين بينهم إعلامية، و2 من “حزب الله”، ومستشار إيراني.
وفي الثاني من الشهر، هز انفجار عنيف حي المزة فيلات غربية بدمشق، ناجم عن استهداف مبنى سكني يتألف من 3 طوابق، يتردد إليه قيادات في “حزب الله” و”الحرس الثوري” الإيراني، أسفر عن مقتل 5 أشخاص بينهم صهر حسن نصر الله.
واستهدفت إسرائيل في الثامن من الشهر، مبنى يتردد إليه قيادات “محور المقاومة” في حي المزة بمحيط أبنية 14 غرب دمشق، وأسفرت عن مقتل 10 بينهم 4 أطفال.
كما قتل 2 من “حزب الله” اللبناني، نتيجة الاستهداف، وهي أعنف عملية استهداف إسرائيلي منذ تدمير مبنى ملحق بالسفارة الإيرانية في ذات المنطقة..
وآخر تلك الاستهدافات لم يكن ببعيد، ففي الـ21 من أكتوبر الجاري، قتل شخص من جنسية غير سورية وآخر مجهول الهوية، بهجوم إسرائيلي استهدف سيارة مقابل فندق قرب مبنى وزارة الإعلام، في حي المزة.
السكان في مرمى النار
تلك الأحداث زادت من إصرار أهالي الحي على طرح منازلهم للبيع. السيدة تاج، إحدى سكان المزة فيلات، كانت قد طرحت منزلها للبيع بعد إصرار أختها على مغادرة الحي إثر الضربات المتكررة، رغم ترددها في الانتقال.
ترى تاج في حديث لـ”963+” أن “القصف يستهدف بشكل محدد تجمعات الشخصيات الإيرانية وأن الأمر لا يؤثر عليها بشكل مباشر، لكن ضغط الأحداث ومغادرة كثير من السكان أرغمها على النظر في فكرة البيع”.
ويؤكد بعض سكان المزة أنهم يعيشون تحت ضغط نفسي مستمر، مع تزايد المخاوف من انفجار جديد في أي لحظة.
وفي ظل المخاطر الأمنية المستمرة، اتخذ سوق العقارات في المزة منحىً ركودياً غير مسبوق، وأصبحت الكثير من المنازل تُعرض للبيع بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية بسبب عزوف المشترين عن الشراء في منطقة مهددة.
يصف صاحب مكتب الأحمد العقاري، في مزة فيلات، حال السوق بأنها “ركود شبيه بالشلل” مشيراً إلى أن تزايد العرض مقابل تراجع الطلب أثر بشكل مباشر على الأسعار، حيث اضطر عدد من العائلات للانتقال إلى مناطق أكثر أماناً.
ومع ارتفاع وتيرة الضربات، أبدى السكان مخاوفهم من استهداف أبنيتهم التي أصبحت ملاذاً لشخصيات عسكرية وأمنية، ولم يعد الحي يحتفظ بهدوئه السابق، بل تزايدت فيه المخاطر الأمنية مع تنامي النزاعات السياسية على حساب الحياة اليومية لسكانه.
وبالنسبة للعديد من سكان المزة، أصبح الانتقال إلى مناطق أخرى ضرورة وليست مجرد خيار، في حين يسود الشعور بالتهجير القسري الذي يشمل تغيير الديموغرافيا، وازدياد القيود على الحريات.
ويضيف صاحب المكتب لـ”963+”: “يعود السبب في ذلك إلى زيادة وتيرة الاستهداف الإسرائيلي لأهداف محددة إيرانية أو لبنانية سكنت مؤخراً بالمزة وهو ما رفع نسبة الخطر بالنسبة للأهالي لا سيما مع قوة الضربات وسقوط ضحايا مدنيين”.