خاص – سيلدا علي/ دمشق
إنها جريمة مكتملة الأركان، ترتكب من دون شهود، وتبقى في أغلب الأوقات طي الكتمان، حتى تتحول إلى مزيج من الكوابيس في الليل والصعوبات النفسية في النهار. في عام 2003، عرّفت منظمة إنقاذ الطفولة التحرّش الجنسي بالأطفال بأنه “فرض أفعال جنسية، أو أفعال ذات طابع جنسي، من شخص أو أكثر على طفل دون سن البلوغ”.
“الوصمة”
كانت منيرة ك. تحاول مساعدة ابنها في تغيير ملابسه، لكنه كان يشعر بالذعر في كل مرة، ويرفض مساعدتها بشكل يثير الريبة. تقول لـ”963+”: نعيش في مدينة جرمانا من دون مشاكل، ’كافيين الناس خيرنا وشرنا‘، لذا وقع علي الخبر وقوع الصاعقة. أخبرني سليم أن أحد أقربانا حاول التقرب منه بطريقة غير أخلاقية، فعجزت عن التفكير. هل أكتم السرّ وأحاول أن أعالج خوف ابني، أم أشعل نار المواجهة في العائلة الواحدة؟”.
قررت منيرة الصمت، والرضوخ للأمر الواقع خوفاً من وصمة العار، فهل أصابت؟ تقول المحامية ضحى الحاج علي إن التحرّش الأكثر تفشيّاً هو سفاح القربى، “من آباء وإخوان وعموم وأخوال، أي ضمن المحيط المباشر للطفل”، مضيفة لـ”963+”: “شهدت عدداً كبيراً من حالات التحرّش بالأطفال والنساء، فهذا مرضٌ نفسيّ يتفشى سريعاً في مجتمعنا، وهو مرتبط بالعنف القائم على النّوع الاجتماعي. ثمة حالات فرديّة في دمشق لا يمكن تعميمها، وقد تكثر هذه في المناطق المنكوبة بالحرب والفقر والجهل والكبت الجنسي”.
وتلقي المحامية اللوم على الأهل في عدم ممارسة ثقافة الشكوى، خصوصاً إن تعرض أطفالهم للتحرش الجنسي في أماكن عملهم، كالمصانع والمعامل والمحلات، حيث يعملون بشكل غير قانوني، حيث لا رقابة ولا اهتمام.
وتتابع الحاج علي: “يجب عدم التستر على المجرم، اياً كانت هويته ودرجة قربه من الطفل الذي تعرض للتحرّش”، فكان الأولى بمنيرة أن تواكب ابنها إلى المخفر لتقدم شكوى، ثم تتولى النيابة العامة التحقيق، وتعرض الحالة على طبيب شرعي محلّف تكلّفه وزارة العدل لكتابة تقرير أساسي، وعندها تثبت الواقعة أو لا تثبت”.
جريمة وسوء رعاية
يعدّ الطب الشرعي التحرش بالأطفال “جريمة وسوء رعاية بحقهم، واعتداء عليهم وعلى الطفولة والمجتمع، فالتحرّش يشوه نظرة الطفل لشخصيته وجسمه وللمجتمع كله”، بحسب ما يقول الدكتور حسين نوفل، الرئيس الفخري للطب الشرعي في سوريا وأستاذ الطب الشرعي والسموم والأخلاقيات الطبيّة في كلية الطب بجامعة دمشق.
يضيف نوفل لـ”963+”: “لإعداد التقرير في الواقعة، يعتمد الطب الشرعي على الفحص السريري لجسم الطفل المتحرش به من رأسه إلى أخمص قدميه، بحثاً عن علامات في جسمه تدلّ على حصول التحرش، كالكدمات أو آثار من شعر أو مني أو إفرازات عرقية أو لعاب الشخص المتحرش على جسم الطفل، إضافة إلى فحصه نفسياً تحت إشراف معالجين سلوكيين، فقد تعرض لمسار غير طبيعي روحي حركي جسمي ونفسي، وحدث اعتداء على طفولته من بالغين”.
وبحسبه، يمكن التحرّش أن يكون شفهياً أو نفسياً أو جسدياً، “وربما لا نجد علامات جسديّة بل سلوكيّة ناجمة عن التحرّش، وقد نشك بالوالدين”، مضيفاً: “يشمل التقرير كل المعلومات الجسديّة النفسيّة السلوكيّة الخاصة بمن وقعت عليه واقعة التحرّش، وإن لم نجد أعراضاً، يكفي وصف الطفل بما تعرّض له”.
ويؤكد نوفل ضرورة تعزيز الثقافة الجنسيّة عند الأطفال، “فعلى الوالدين شرح تفاصيل العلاقة الجنسية للطفل، من دون التلطّي وراء الحياء”.
انتبهوا إلى هذه الأعراض!
واجه الاستشاري التربوي والنفسي الدكتور مهند ميّا حالات تحرّش كثيرة خلال الحرب على سوريا، “لكن هذه الحالات كلها بقيت طي الكتمان لأن من فعلها مقربون من الأهل”. ويضيف لـ”963+”: يعاني الأطفال ضحايا التحرّش الجنسي بصمت وخجل، فلا يتكلمون في الموضوع، ولا يفصحون للمتخصصين، ولا يطلبون المساعدة، وإن طلبوا المساعدة، يزداد الوضع تأزماً، إذ غالباً ما تلام الضحية”.
ثمة مؤشرات نفسية وجسدية وسلوكية في الأطفال المتحرش بهم لا بد من الانتباه إليها وملاحظتها جيداً ، كما يقول ميّا، وهي: “إظهار الخوف من شخص معين، والانزعاج عند تغير الملابس الداخلية، والتهاب الحنجرة المتكرر، وإظهار سلوكيات انحطاطية وإباحية أحياناً، والتبول اللاإرادي، والشرود والتوتر، والتغير في السلوك، والتلميح بوجود سر يخفيه، والتغير في المزاج كوصف نفسه بأنه سيء أو قذر”.
ويضيف ميّا إلى هذه الأعراض الإصابة بالتقرحات في المناطق التناسلية، والشراهة في الأكل، ومحاولة الانتحار، والهروب من البيت، والتلفظ بالكلمات النابية، وإتيان الحركات الجنسية غير اللائقة كمص الأصبع والإفراط في ممارسة العادة السرية، والسرقة والكذب، ورؤية الأحلام المزعجة والكوابيس، والتراجع في التحصيل الدراسي، والتسرّب المدرسي مواكباً السلوك العدواني، والابتعاد عن ممارسة الهوايات المفضلة، وظهور بعض الملامح الجنسية في رسوماتهم”.
أحياناً، تضاف إلى هذه الأعراض التقوقع على الذات والخروج طويلاً من البيت، والاكتئاب وتعاطي الكحول أو المخدرات، والنظر إلى الآخرين نظرة شك، والعجز عن إقامة صداقات سوية.
التوعية أولاً
حسناً، هذا أمر خطير. فكيف نحمي أطفالنا من آفة التحرّش الجنسي؟ يجيب ميّا: “التوعية أساسيّة، ويجب أن تبدأ في عمر مبكر جداً، عندما يبلغ الطفل عمر 3 سنوات، أي عندما يبدأ باكتشاف وظائف جسمه وبامتلاك بعض الاستقلال الذاتي، كالدخول إلى الحمام وحده أو ارتداء ملابسه بنفسه”، داعياً الأهل إلى اغتنام الفرصة في هذه المرحلة “لتعريف الطفل بما تعنيه حرمة الجسم، وكيف يكون جسده ملكه، لا لأحد أن يراه أو يلمسه”.
يشجّع ميّا الأهل على الثقة بحدس أولادهم، “فالأطفال حساسون جداً، يمكنهم التمييز في أغلبية الأحيان بين الشخص الذي يرتاحون للتواجد بقربه، وبين الشخص الذي يستنفرون منه”.
ويؤكد الاستشاري التربوي والنفسي على أن بناء الأهل علاقة جيدة ومتينة مع أطفالهم منذ الصغر مسألة أساسية، “كي يستطيع الطفل الوثوق بأنه يمكنه إخبار والدته أو والده أو أي بالغ آخر يثق به، بأن أمراً مشبوهاً حصل معه، فالتواصل بين الأهل وأطفالهم يجب أن يكون مستمراً، حتى في الأمور الصغيرة التي قد يراها الطفل كبيرة جداً”، ناصحاً الأهل بألا يستخفوا بمشاكل الطفل الصغيرة، “فهي حجر الأساس في علاقتهم معه، وفي ثقته بهم كي يشعر بالأمان، وهذا يتعزز بالاحتضان والتصرف بعقلانية وعدم لوم الطفل وتأنيبه بطريقة تشعره بالذنب وبأنه مسؤول عما حصل”.
الوقاية خير من العلاج
ينصح ميّا بتدريب الطفل على احترام نفسه وجسده، وعلى احترام خصوصيّة جسده وما فيه من مناطق حميمة لا يسمح لأحد بلمسها، وتدريبه أيضاً على جرأة البوح، والتعبير عن مشاعره بلا خوف.
يقول: “علينا الإصغاء إلى الطفل وتجنب التشكيك في حقيقة مشاعره، وتعليمه التوجّه إلى الآخرين وطلب مساعدته عندما يتعرض لأي موقف يظنه مخجلاً، الابتعاد بحذر عن الغرباء ليكون أكثر وعياً، وذلك يتم بقصّ القصص عليه ورواية الحكايات ذات العبر التربويّة”.
ويضيف ميّا مؤكداً ضرورة أن يعرف الطفل أي سرّ يكتم، وأي سرّ يُفصح عنه، شريطة عدم توبيخه، والأهم تعليمه كيف يطلب النجدة، وكيف يدافع عن نفسه بالحد الأدنى”.
في القانون والمجتمع
تؤكد الحاج علي أن القانون السوري تعرّض لقضية التحرش ضد الأطفال. تنص المادة 505 من قانون العقوبات السوري على الآتي: “من لمس أو داعب بصورة منافية للحياء قاصرًا لم يتم الـ 15 من عمره، ذكرًا كان أو أنثى، أو فتاة أو امرأة لهما من العمر أكثر من خمس عشرة سنة دون رضاهما، عوقب بالحبس مدة لا تتجاوز السنة ونصف السنة”.
وتنص المادة 506 على أن “من عرض على قاصر لم يتم 15 عاماً عملًا منافيًا للحياء، أو وجه إلى أحدهم كلاما مخلاً بالحشمة، عُوقب بالحبس التكديري ثلاثة أيام”.
وتلاحظ أن هذه الجرائم تعتبر جنحاً “ما عدا الاغتصاب، فلا تزيد عقوبتها عن الثلاث سنوات سجن، وهي غير رادعة”، مشيرة إلى أن عقوبة التعرض للأخلاق العامة هي الحبس من 3 أشهر إلى 3 سنوات، وتشدد للحد الأعلى إذا كان من وقع عليه الجرم لم يتجاوز التاسعة من عمره.
ويرى ميّا أن هناك حالة من حالات “شيوع الفوضى”، ما يستوجب تفاعلاً جديّاً للحد منها، “وأبرز وجوهها تبني المجتمع ثقافة الوصم، ما يجعل العبء ملقى بشكل دائم على المعتدى عليه، بغضّ النظر عن العمر والجنس والحالة الصحية، إضافة إلى تبنّي ثقافة التكتّم والتعتيم وغياب الوعي العام بعناصر الجسد وكيفيّة التعامل معها أو غياب التربيّة الجنسيّة لاعتبارات دينيّة وثقافيّة واجتماعيّة، ولا ننسى أن العشوائيّات تمثل بيئة أساسيّة لانتشار مثل هذه الظاهرة، إلى جانب ضغط المثيرات الجنسيّة وانتشار البطالة وغياب الأمن والتدعيم الاجتماعي والمخدرات وزنا المحارم واختراق خصوصيّة الآخرين وضغوطات الحياة النفسيّة والماديّة وقلة الوعي والثقة الزائدة”.
الأهم، برأيه، هو تشديد الرقابة على الأطفال عند حضورهم في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً الأفلام والرسوم المتحركة التي تعدّ بيئة مهيّأة لتقبل بعض التصرّفات غير الأخلاقيّة وتنافي تربيّة الأهل لطفلهم، “فيدخل الطفل في صراعات بين المسموح والممنوع، فكل ما تم ذكره من شأنه رفع أو تقليل حالات التحرّشات الجنسية ليس لدى الأطفال فحسب، إنما بشكل عام”.