قد يبدو أن ثمة ما تغير بموقف السوريين من القضايا العربية ومن التعاطف مع المعرضين للعنف والقتل من العرب، أو مع من يتشابه مصيرهم مع مصير السوريين في الدمار والموت والتهجير والفقر وغير ذلك من الكوارث الناتجة عن مختلف أنواع الحروب. قد يبدو أن ثمة ما تغير بعد عام 2011 في السوريين جميعا، وليس فقط في السوريين الذين وقفوا ضد النظام، بل يبدو كما لو أن هذا التغير يكاد يكون عاما بين السوريين لم ينج منه إلا فئات قليلة معظمها ينتمي إلى أجيال عاصرت وهج الفكر القومي أو كل مراحل الصراع العربي الإسرائيلي؛ وقد يبدو هذا التغير غريبا قياسا إلى موقف السوريين التاريخي من قضايا الأمة العربية وقضية فلسطين، على وجه الخصوص، والموقف من العدو الإسرائيلي بوصفه العدو الأول والسبب المباشر لكل ما يصيب هذه الأمة من نوائب؛ كما أن هذا الموقف قد يبدو مناسبا لمن اعتاد الطعن بنوايا الانتفاضة السورية ونوايا من خرج ضد النظام مطالبا بالعدالة والكرامة والحرية وببلد ديموقراطي ذي حكم مدني؛ ذلك أنه ليس هناك من تهمة أشد فظاعة في الوعي الجمعي العربي من تهمة العمالة لإسرائيل، وليس هناك من تهمة أكثر سهولة منها في إلصاقها بكل من يتم الاختلاف معه سياسيا؛ وهي بكل حال تهمة اعتادت الأنظمة العربية على لصقها بكل معارضيها ومحاكمتهم بناء عليها.
قد يبدو أن هذا الانقلاب في الموقف السوري حاصل فعلا لو قسناه على مقدار تفاعل السوريين مع الأحداث السياسية والأمنية المتلاحقة في المنطقة، خصوصا منذ ما يقارب الشهرين أي منذ بدأت إسرائيل في عدوانها على الضاحية الجنوبية في بيروت بعد عام كامل من الفتك بغزة وسكانها. إذ أن التصفح اليومي لما يدونه السوريون في الداخل والخارج يمكنه أن يسبب الإحباط لمن يبحث عن موقف متفائل أو يشيد بخطوات المقاومة أو يشد من أزر الصامدين في المدن المعرضة للعدوان؛ أو حتى لمن يبحث عن اهتمام يومي ومتواصل بما يحدث على مدونات السوريين عبر مواقع التواصل. والبعض قد تصدمه مواقف بعض السوريين التي تطيح بما يظن أنه بديهيات لا يمكن الخروج عليها أو نقضها أو حتى الاختلاف حولها.
باستثناء قلة منهم لم يتعاطف السوريون مع الحزن علي اغتيال حسن نصر الله “زعيم المقاومة” وقيادات حزب الله، بل أن كثر من السوريين أبدوا من الابتهاج باغتيالهم ما حولهم في نظر بعض العرب إلى خونة ومتصهينين”. بعض العرب ممن كانوا يؤيدون علنا وسرا النظام السوري بسبب اعتقادهم الراسخ أن (سوريا الأسد) هي الشوكة الأولى في وجه الصهيونية والامبريالية والداعم الأول للمقاومة. يتجاهل هؤلاء، عمدا على الأغلب، أن إسرائيل استباحت سماء سوريا خلال العقد الماضي مئات المرات وقصفت مواقع عسكرية وقتلت إضافة لمن قتلت سوريين مدنيين دون أن يجاول النظام الرد ولو لمرة واحدة ذرا للرماد في العيون، يتجاهل هؤلاء أيضا أن خلال عام كامل من الفتك بغزة لم يقم هذا النظام بأي خطوة تساعد منكوبي غزة كما يفترض بمن يدعم المقاومة أن يفعل، في الوقت الذي كانت فيه طائراته الحربية تتمادى في قصف وقتل المدنيين في إدلب والشمال السوري دون هوادة. أما مقاومة حزب الله، فيعرفها السوريون جميعا، في الداخل والخارج، جيدا، المقاومة التي استباحت سوريا وحاولت التغير في ديموغرافيتها، ووضعت الحواجز في الكثير من مدنها، ورفعت الشعارات الطائفية وهي تفتك بالسوريين حماية منها لبشار الأسد من السقوط وحماية لنظامه من التغيير، يعرف السوريون في كل مكان من سوريا جيدا كيف تحولت المقاومة وزعيمها، الذي كان يوما بمثابة ولي مقدس عند كثر جدا من السوريين، إلى ميليشيا مسلحة لها طابع الارتزاق تحمي النظام السوري تنفيذا لرغبة إيرانية ببقاء الأسد في مكانه. أسقطت العشر سنوات الماضية بديهية دعم المقاومة لدى السوريين، أسقطها أيضا انزياح حزب الله نفسه عن فكرة تأسيسه كحزب مقاوم، حتى لو كان مدعوما من إيران، ليتحول إلي ميليشيا مرتزقة لا مانع لديها من قتل سوريين يحلمون بتغيير حياتهم ومستقبل بلادهم، ميليشيا تابعة وممولة تأتمر لأجندة تحلم باستعادة نفوذها الامبراطوري وتحترف البراغماتية في علاقاتها الدولية وتنجز حروبها بدماء شعوب أخرى بينما يبقى شعبها آمنا من الموت ومن التشريد ومدنها آمنة من الدمار.
لم يكن موقف السوريين من اغتيال السنوار رئيس حركة حماس شبه عام مثل الموقف من اغتيال حسن نصر الله، ذلك أن حركة حماس، رغم تحالفها مع النظام السوري وإيران، إلا أنها لم تورط نفسها في الشأن الداخلي السوري، ولم تلطخ يدها بدم السوريين، ظلت بوصلتها واضحة وتتجه باتجاه محدد: المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، دون أي التباس في هذا الهدف ودون أن يكون المدخل لذلك يمر عبر دول أخرى؛ لهذا ربما ترك مقتل السنوار أثرا واضحا لدى سوريين كثر في الداخل والخارج وعلى اختلاف تحزباتهم. دون أن يعني ذلك الاجماع السوري على نعيه بوصفه بطلا. ذلك أن السنوات العشر الماضية أيضا جعلت السوريين يختبرون الجوهر الحقيقي للإسلام السياسي الذي لا مانع لديه من تدمير أية فكرة نبيلة في سبيل تحقيق حلم استلام السلطة وقيادة المجتمعات تحت يافطة الأيديولوجيا الدينية التي تنظم فكر الإسلام السياسي، دون أية مراعاة للاختلافات الثقافية في المجتمعات العربية التي تنبع من التنوع الإثني والديني والمذهبي والتي تطبع خصائصها علي المجموعات البشرية التي تتشكل منها مجتمعاتنا. لا تنزاح حركة حماس عن هذا الفكر قيد أنملة، تجربتها في حكم قطاع غزة خلال السبعة عشر عاما الماضية لا تدل علي غير ذلك، تفردها بالحكم وفرضها نموذجا واحدا له وللحياة في القطاع، وفرضها قيودا مجتمعية واقتصادية زادت في معاناة سكان القطاع الذين يكابدون أصلا من الحصار الإسرائيلي لهم، تفردها في شكل واحد للمقاومة ورفضها المصالحة مع باقي الفصائل ومع السلطة الفلسطينية في الضفة، ثم جاءت مغامرتها الأخيرة يوم السابع من أكتوبر عام 2023 وعملية طوفان الأقصى، لتعطي الذريعة المناسبة لليمين المتطرف الإسرائيلي الحاكم بتنفيذ وعوده في إعادة احتلال غزة وتفريغها من سكانها وإعادة المستوطنين إليها، وليبدأ الجحيم الحقيقي لغزة وقطاعها والذي استمر لنشهد من خلاله ما نشهده اليوم من إجرام منفلت من عقاله وحرب إبادة حقيقية ليس فقط في غزة بل امتدت إلى لبنان بسبب رغبة إيران في أن يقوم حزب الله بإسناد غزة ثم يحصل ما حصل.
لم ينس السوريون دور الإسلام السياسي في فشل ثورتهم، ولم ينسوا ما تسببت به براغماتيته واستفراده بقيادة الثورة من كوارث على الثورة وعلى السوريين، ولم ينسوا ما تسببت به تحالفات أحزابه وارتهانها لدول ومحاور لا تعنيها مصلحة السوريين ولا مصلحة سوريا بشيء، ولم ينسوا أيضا الفساد الذي نشرته تلك الأحزاب والميليشات في مفاصل الثورة وقياداتها. كل ذلك مازال ماثلا حتى اللحظة في أذهان كثر من السوريين لا يرون أن حركة حماس تخرج عن خط الإسلام السياسي وعن فكره وعن رغبته في الاستفراد بالسلطة والقيادة تنفيذا لرغبات الداعمين ولو علي حساب أرواح الفلسطينيين وأمنهم وحياتهم. لم ينس العديد من السوريين ذلك وهم يرون مأساتهم تتكرر في غزة ولبنان، التهجير والدمار والموت والنزوح والفقد وضياع كل شيء في سبيل مغامرات غير محسوبة وبعيدة كل ابعد عن الاستراتيجيات الحربية التي تقدر الربح مقابل الخسائر، يضاف إلي ذلك الخطاب الذي لطالما اعتمدته حركات الإسلام السياسي في كل مكان، خطاب النصر الإلهي رغم أن الخسائر تصل إلي درجة الكارثة الحقيقية. وخطاب الصمود على حساب أرواح مئات آلاف من المدنيين ممن وجدوا أنفسهم وقودا للحرب بين ليلة وضحاها دون أي إنذار.
لم يستطع السوريون نسيان تجربة الإسلام السياسي في الثورة وعمموها على فلسطين ولبنان تلقائيا، فالمقاومة، حسب كثر منهم، التي لا يكون هدفها وطنيا وبناء مستقبل ديموقراطي تعددي بعيدا عن أي إيديولوجيا دينية حتى لو استطاعت إنجاز التحرير فهي ستتحول إلى مستبد جديد قد لا يقل هولا عن الاحتلال، وتجربة هذه الحركات في فلسطين ولبنان لم تكن تجارب مبشرة بمستقبل مشرق. يعرف السوريون الذين يصدمون اليوم العرب بمواقفهم من المقاومتين في لبنان وغزة ذلك جيدا، اختبروه في ثورتهم وفي أحلامهم المجهضة وفي انهزام ثورتهم وانهزامهم النفسي والمعنوي والمادي. وما اتهامهم بالصهينة إلا محاولات من بعض العرب للتطهر من العجز الذي يشعرون به هم أنفسهم تجاه ما يحدث، التطهر من الهزائم المتلاحقة التي تصيبهم على المستوى الوطني والقومي. فهل يا ترى لو كان موقف السوريين عاما وداعما بشكل كلي للمقاومة في غزة ولبنان هل كان مسار الحرب سيتغير وهل كانت المقاومة ستنتصر؟! نعرف جميعا الإجابة على سؤال كهذا؛ ونعرف أنه لا السوريين غير المكترثين بموت قادة المقاومة متصهينين ولا العرب الذين يتهمونهم بالصهينة يمكن لأحدهم أن يرسل ولدا من أبنائه ليقاتل في صفوف المقاومة. نعرف جميعا أن كل هذه الانقسامات هي انعكاس للهزيمة التي يشعر بها الجميع في هذا المشرق البائس الذي ساهم الإسلام السياسي بشكل جذري في أن يمنع عنه فرصة التغيير الشعبي الوطني الحقيقي إثر الربيع العربي.