يبدو أن المصائب واللعنات باتت تصيب السوريين أينما حلّوا. مصيبة بعضهم الجديدة هي الحرب المستعرة في لبنان بين “حزب الله” والجيش الإسرائيلي، والتي تدفع بمئات الآلاف من السوريين إلى العودة إلى لبنان خوفاً من الموت والدمار الحالي والآتي. لا يقتصر الأمر على السوريين فقط، بل إن عشرات الآلاف من اللبنانيين حملوا أمتعتهم وفرّوا إلى داخل الأراضي السورية. بعضهم استقر فيها، فيما البعض الآخر استخدمها كمقر للعبور إلى العراق.
يفهم السوريون معنى الحرب وأضرارها عندما تخرج عن طورها وقواعدها. لهم تجربة واسعة في هذا المضمار، بعدما عاشوا حرباً مهولة مدمّرة في سوريا، ولجأوا إلى لبنان في الماضي. الآن، دنا زمن العودة، والانتقال من مكان خطير جداً إلى مكان أقل خطورة. أصبح التنقل بين ضفتي الحدود خبزاً يومياً لبعض السوريين، يحملون منازلهم على أكتافهم أو في آليات النقل المعدّة لعبور الحدود بشكل نظامي أو عبر التهريب، ويذهبون حيث الموت أرحم والخطر أقل دهامة.
في السادس من الشهر الحالي، أعلنت “وحدة إدارة مخاطر الكوارث” التابعة للدولة اللبنانية أرقاماً تفصيلية عن عدد السوريين واللبنانيين الذين خرجوا من البلاد نحو سوريا. أتت الأرقام على الشكل التالي: “سجل الأمن العام اللبناني عبور 300,774 مواطن سوري و102,283 مواطن لبناني إلى الأراضي السورية، وذلك في الفترة الممتدة من 23 سبتمبر/أيلول إلى 5 أكتوبر/تشرين الأول 2024”. يمكن إضافة بضعة عشرات الآلاف إلى هذه الأرقام، إذ أن ما أعلنته “الوحدة” لا يشمل سوى الذين تركوا لبنان ودخلوا سوريا بشكل رسمي وعبر المعابر التي يُسيطر عليها الأمن العام اللبناني، وهما بشكل أساسي معبر المصنع (شرق لبنان) ومعبر العريضة (شمال لبنان) الملاصق لمحافظة طرطوس السورية.
تشير هذه الأرقام إلى حقيقة أكيدة، وهي أن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم باتت أمراً ممكناً وسهلاً نسبياً. ليس الأمر مقتصراً على ميل الناس للهجرة من مكان فيه حرب إلى مكان أكثر هدوءً فقط، بل إن التسهيلات التي وضعها الأمن العام اللبناني والسوري جعلت من الانتقال عبر الحدود أمراً مستحباً. فالجانب الأول عزز من عديده البشري على الحدود، وزاد من فعاليته الإدارية والتنظيمية، فيما علّق الجانب الثاني العمل، ولو لأسبوع واحد، بقرار تصريف 100 دولار أميركي إلى الليرة السورية عند دخول مواطنيه عبر المنافذ الحدودية، ما جعل عملية الانتقال أسرع، أقل كلفة، وأكثر سلاسة.
أما اللبنانيون المغادرون إلى سوريا، فهُم بمعظمهم من سكان الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث الثقل الشعبي لـ”بيئة حزب الله”، أو من منطقة البقاع شرق البلاد المتاخمة للحدود مع سوريا. فقد الكثير من هؤلاء منازلهم وأملاكهم نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وخاصة في ضاحية بيروت التي غادرها أغلب سكانها بسبب تعرضها كل يوم لعشرات الغارات العنيفة من الطيران الحربي الإسرائيلي وبوارجه الرابضة في البحر.
وكما دائماً، يخلق وضع تنقل البشر سلسلة من المصالح والأفراد الذين يعملون لتسهيل حياة الناس. ينتقل اللبنانيون من بلادهم إلى منطقة “السيدة زينب”، في ضواحي العاصمة السورية دمشق، كما تفيد الدعايات المنشورة في لبنان، حيث تنظم اللجان الشعبية المدنية المرتبطة بـ”حزب الله” هذا الانتقال، ودون تكليف المسافرين عناء دفع أي بدلات مالية. بعد الاستقرار هناك لأيام معدودة، ينتقل من يرغب من المسافرين إلى العراق، عبر معبر “البوكمال” الواقع بين سوريا والعراق، وهذا ما يتم بالتنسيق مع “الحشد الشعبي” العراقي الذي يستقبل اللبنانيين في العراق ويؤمن لهم مساكن وغذاء وشؤون حياتية أخرى. أما غير الراغبين في الذهاب إلى العراق، فيستقرون في سوريا حيث أمّن “حزب الله”، بحكم تواجده العسكري هناك منذ عام 2013، بيئة حاضنة لهم.
يعمل “حزب الله” على الاهتمام ببيئته الشعبية، خوفاً عليها أو خوفاً من نقمتها عليه. ففي نهاية الأمر، “حزب الله” هو من تسبب بما حلّ به، بشعبه وبلبنان من دمار، بعدما دخل في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في مرحلة “إسناد غزة” وأطلق، في ذاك التاريخ، الصاروخ الأول على إسرائيل.
مع تصاعد حدّة الحرب في لبنان، أصبح من الواضح أن الأمور خرجت عن السيطرة، حيث تضرب الغارات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية بشكل يومي، مدمرة البنية التحتية والمنازل في المناطق التي يعتبرها “حزب الله” معاقله الرئيسية. يعيش اللبنانيون في هذه المناطق حالة من الخوف والترقب، فهم يعلمون أن مناطقهم ستكون أهدافاً أساسية في أي تصعيد مقبل، كما يعرفون، تبعاً لخبرتهم الطويلة مع الجيش الإسرائيلي، أنه جيش لا يكترث كثيراً للأبعاد الإنسانية. لم يعد الوضع يُحتمل، ما دفعهم للبحث عن مخرج، أي مخرج، وإن كان العبور إلى بلد مثل سوريا التي لم تتعافَ بعد من دمار الحرب الأهلية بشكل كامل.
ومع ذلك، يظل الانتقال إلى سوريا هو الخيار الأكثر منطقية بالنسبة لهم، حيث يبدو أن الخيارات الأخرى محدودة أو معدومة. فالدول المجاورة تفرض قيوداً صارمة على دخول اللبنانيين والسوريين، كما أن الهجرة إلى أوروبا أو دول الخليج أصبحت شبه مستحيلة بالنسبة لمعظمهم. لذلك، يجدون في سوريا ملاذاً مؤقتاً، ولو كان مليئاً بالصعوبات. هذه الصعوبات لا تقتصر على الظروف المعيشية فقط، بل تشمل أيضاً الأوضاع الأمنية والاقتصادية المتدهورة في سوريا.
أما بالنسبة للسوريين العائدين إلى بلادهم، فهم يعيدون اكتشاف واقعٍ مرير كانوا قد تركوه وراءهم، لكنهم الآن باتوا مجبرون على التعايش معه مرة أخرى. على الرغم من التسهيلات المؤقتة التي قدمتها الحكومة السورية، إلا أن التحديات التي تواجههم تبقى هائلة. فالبنية التحتية مدمرة، والاقتصاد منهار، وغياب الأمان هو السمة الغالبة في مناطق كثيرة. ومع ذلك، يجد السوريون في العودة إلى ديارهم خياراً أفضل من البقاء في لبنان، حيث باتت الحياة هناك مستحيلة بسبب الأزمة الاقتصادية المستفحلة وانهيار الخدمات الأساسية وإمكانية أن يلقوا حتفهم بغارة إسرائيلية لا تميّز بينهم، كلاجئين مدنيين، وبين أي مقاتل عادي في “حزب الله”.