خاص – حسن العلي / دير الزور
تدمر واحدة من أهم المواقع الأثرية في سوريا والعالم، تحتضن آثاراً عريقة تعود إلى العصر الروماني. لكن ما كان يُعرف باسم “عروس الصحراء” لم تسلم من ويلات حرب تمزق سوريا منذ أكثر من عقد، إذ تعرضت آثارها لدمار كبير نتيجة الاشتباكات والقصف المتبادل بين الأطراف المتنازعة.
راكان الممدوح تدمري عريق، تضرب جذور عائلته في هذه المدينة العريقة منذ أجيال عديدة. يقول لـ”963+”: “منذ نعومة أظافرنا، كنا نستمع إلى قصص تدمر ملتقى الحضارات، فنشعر بالفخر العميق بانتمائنا إليها. وكانت تدمر وجهة سياحية مميزة، حتى بالنسبة إلينا نحن أهلها، يتوافد إليها السياح من مختلف أنحاء العالم لمشاهدة معالمها الأثرية الفريدة”.
لكن، بعد وقوع المدينة في قبضة “داعش”، التنظيم المصنف إرهابياً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية وآسيوية أخرى، حلّت الكارثة. يروي الممدوح: “قام عناصر التنظيم بتدمير العديد من المعالم الأثرية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من هويتنا وثقافتنا، وكانوا يفجرون المعابد والتماثيل بلا رحمة، وينهبون ما يمكن نهبه بذريعة تحريم التماثيل لأنها إرث وثني. كان هذا مؤلماً جداً بالنسبة إلينا، إذ فقدنا الكثير من تراثنا وفخرنا بعراقة هذه المدينة”.
من سيء إلى أسوأ
من أبرز معالم التي تعرضت للتدمير قوس النصر الشهير والمعبد الكبير، وكانا يرمزان إلى عظمة الحضارتين النبطية والرومانية، “وقد أثر ذلك بشكل كبير على حياتنا اليومية، فلم نعد نشعر بالأمان في مدينتنا، وسيطر علينا الخوف، وتراجع عدد السياح فقلّ رزقنا، ونحن في الأصل نعتمد على السياحة الأثرية لنعيش”، كما يتابع الممدوح، مضيفاً: “بعد طرد ’داعش‘، سيطرت القوات الحكومية السورية والفصائل الموالية لإيران على المدينة، وما زالت هذه الفصائل حتى اليوم تمنع السياح من دخول تدمر، في استمرار لتدمير اقتصاد هذه المدينة وأهلها، حتى أنها قصرت الاستفادة من المعالم الأثرية على عناصرها وعائلاتهم، في ظل صمت القوات الحكومية المطبق”.
ولكن، على الرغم من هذه التحديات والصعوبات كلها، يستمر أهل تدمر في الحفاظ على هويتهم وثقافتهم. يقول الممدوح: “إننا نشارك في برامج ترميم وصون المعالم الأثرية التي تمكنت القوات الحكومية من استعادتها بشكل جزئي، ونحرص على نقل تراثنا وقصص مدينتنا إلى الأجيال الصاعدة، سواء بالوسائل الإلكترونية أو بالندوات الثقافية، لأننا لن نسمح لهذه الحرب أن تمحو تاريخنا الطويل وتلغي تراثنا الإنساني الفريد”، فتدمر معروفة بحروبها منذ آلاف السنين، وبصمود شعبها الذي حال دائماً دون طمس هويتها الثقافية، والتدمريون عازمون اليوم على حفظ ما بقي من هذا التراث، ولن يتخلوا عن فخرهم بانتمائهم إلى هذه المدينة العظيمة.
وقفنا عاجزين
يقول محمد الخالد، وهو تدمري أصيل أيضاً، متألماً: “كانت ممارسات ’داعش‘ ضد المنطقة وأهلها مؤلمة جداً. كان الخراب والسرقة يحدثان أمام عيوننا، من دون أن نتمكن من الاعتراض. كانت لحظة صادمة لنا نحن شباب هذه المدينة العريقة، وما زالت تدمر تتعرض للنهب حيث احتكر المتنفذون في القوات الحكومية والفصائل الإيرانية السياحة ومواردها، ولا يسعنا الاعتراض”، مضيفاً لـ”963+”: “الوضع الأمني في تدمر هشّ حتى الساعة، فعناصر ’داعش‘ ما زالت موجودة، تمارس سطوتها على الناس في ظل غياب أي دور أمني حكومي فعّال، لكننا نبذل قصارى جهدنا لجذب ما يمكن من السياح. بمساعدة منظمات محلية، رمّمنا بعض المعالم الأثرية التي ما زالت قائمة”.
يؤكد الخالد أن أهل تدمر لن يسمحوا بانتزاع تراث مدينتهم، “فهذا جزء لا يتجزأ من هويتنا الوطنية والإنسانية، ونحن نؤمن بأن حفاظ التراث واجب وطني، لذا نجتهد لإحيائها. فمدينة النور ليست مجرد مكان، بل هي رمز وهوية”.
وفقًا لتقارير المراقبين والمؤرخين والناشطين المحليين، تعرضت معالم أثرية كثيرة بارزة في تدمر لدمار جزئي أو كلي خلال الفترة الماضية. فعلى سبيل المثال، تم تفجير معبد “بل” التاريخي، الذي يُعتبر أحد أهم المواقع الأثرية في المدينة. كما تضرر قوس النصر الشهير وبعض المنحوتات والتماثيل التي تزين المدينة القديمة. وأشار المراقبون إلى أن هذه الأضرار الجسيمة ستؤثر بشكل كبير في جهود ترميم المدينة وإعادة إعمارها في المستقبل.
لم يقتصر الدمار على المواقع الأثرية وحدها، بل تعرضت أيضًا البنى التحتية والمنازل السكنية للقصف والاشتباكات، فنزح العديد من سكان المدينة إلى مناطق أكثر أماناً، وهذا أثر بشكل كبير على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لأهالي تدمر.
إلغاء هويتنا؟!
زكريا عمار ناشط وباحث في تاريخ سوريا وآثارها، يتحدر من تدمر، يقول لـ”963+” إن تدمر كانت في الماضي السحيق مركزًا تجاريًا رئيسيًا على طريق الحرير، ما جعلها مزدهرة اقتصاديًا وحضاريًا على مر العصور، “وهذا يظهر جلياً في المعبد الكبير وقوس النصر والشوارع المرصوفة بالحصى الروماني، فهذه وغيرها شواهد على حضارات تعاقبت على المنطقة، وصارت جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية السورية”، كما يقول.
لسوء الحظ، منذ اندلاع الحرب في عام 2011، استخدمت المدينة قاعدةً للعمليات العسكرية، وهذا ساهم في خرابها، وفي نهب المتطرفين آثارها وتهريبها إلى خارج سوريا وبيعها في السوق السوداء، “وكأن الأطراف المتصارعة تحاربت في كل شيء، واتفقت في ما بينها على تدمير تراث تدمر وإلغاء الهوية الأثرية لسوريا”، بحسب عمار، مضيفاً أن هذا لم يثنِ أبناء تدمر عن عزمهم على تجاوز هذه التحديات، “فالجهود متواصلة لاستعادة هوية تدمر وترميم مواقعها الأثرية”، علماً أن منظمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) تتولى إجراء عمليات ترميم وإعادة بناء للعديد من المعالم المدمرة، وقد أُطلقت برامج وطنية وعالمية بالتعاون مع منظمات محلية وسكان المدينة للحفاظ على تراث تدمر الثقافي.
وتسعى المنظمات المحلية والجهات المعنية إلى إحياء الحياة الاقتصادية والثقافية في تدمر بتطوير السياحة الأثرية، لإحياء الاقتصاد المحلي الذي فقدته المدينة منذ بداية النزاعات المسلحة، “فالأضرار الناتجة عن تلك النزاعات هائلة، وتحتاج إلى تمويل كبير وخبرات فنية”، كما يقول عمار، خاتماً: “غياب الاستقرار الأمني يعيق عمليات الترميم، لذلك ينبغي تعزيز برامج التوعية والتثقيف المجتمعي لتعزيز الشعور بالمسؤولية تجاه هذا التراث الإنساني الفريد. فسيكون لاستعادة تدمر وحمايتها أثر بالغ في مسيرة إحياء الثقافة السورية، وفي الطريق إلى قيامة الفينيق السوري من تحت الأنقاض”.