خاص ـ معاذ الحمد/ حمص
في واقعة كشفت عن أزمة داخلية تتعلق بالنفوذ الإيراني في سوريا، اعتقلت قوات “الحرس الثوري” الإيراني عنصرين يعملان في صفوفه بمدينة حمص وسط سوريا، بعد اتهامهما بمحاولة تسميم زملائهم، بحسب ما ذكرت مصادر عسكرية لموقع “963+”.
ووفقاً لمصادر مقربة من الفصائل الموالية لإيران، العنصران فراس نجم الدين وحمدان الوهيب أقدما على وضع مادة سامة في وجبات العشاء لعناصر من “الحرس الثوري” في مقرهم العسكري قرب كتيبة الرادار ببلدة شنشنار على أطراف حمص. الحادثة التي وقعت مساء الثلاثاء أسفرت عن تسمم أكثر من 20 عنصراً، بينهم حالات حرجة.
صباح الأربعاء، وبعد تأكيد الأطباء في المستشفى العسكري بحمص أن التسمم ناتج عن وضع مادة سامة في الطعام، تم اعتقال المتورطين.
هذه الحادثة أثارت الكثير من التساؤلات حول حالة الفصائل الموالية لإيران في سوريا، وفتحت الباب أمام تكهنات بشأن توترات داخلية قد تكون ناتجة عن صراعات خفية بين عناصر تلك الفصائل.
تصاعد الضغوط الداخلية: انشقاقات واعتقالات
التسميم ليس سوى واحدة من عدة علامات تدل على التوترات المتصاعدة داخل الفصائل الموالية لإيران.
ففي شرق البلاد، وخاصة في دير الزور، شهدت المنطقة انشقاق ثلاث مجموعات تابعة لـ”حزب الله” والفصائل المدعومة من إيران. هذه الانشقاقات جاءت على خلفية الخوف من الضربات الإسرائيلية المتكررة التي تستهدف المواقع الإيرانية، حيث تم اعتقال مجموعتين من المنشقين، بينما لا يزال مصير المجموعة الثالثة مجهولاً.
وتمثل هذه الانشقاقات أزمة ثقة داخل الفصائل الموالية لإيران، وتشير إلى أن الضغوط الداخلية باتت تفاقم الوضع.
التصعيد بين إيران وإسرائيل، الذي أصبحت سوريا ساحة له، وضع العناصر الموالية لطهران في مرمى الخطر المستمر، وهو ما يدفع بعضهم للبحث عن سبل للهرب من هذا الوضع المتوتر.
تحرك لتقليص النفوذ الإيراني
وسط هذه التطورات، يبدو أن الحكومة السورية بدأت تتخذ خطوات جادة لتقليص النفوذ الإيراني المتزايد في البلاد.
في الأشهر الأخيرة، شهدت سوريا سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الدعم العسكري والسياسي الإيراني.
هذه الخطوات تأتي في وقت حساس، حيث تسعى دمشق لاستعادة سيادتها وتوازن علاقاتها الإقليمية في ظل تصاعد الضغوط الدولية.
واحدة من أبرز هذه الخطوات هي إخلاء الفصائل المدعومة من إيران نحو 37 موقعاً ومقراً عسكرياً في مناطق استراتيجية بسوريا. شملت هذه المواقع مستودعات أسلحة ومقرات عسكرية في ريف دير الزور الشرقي، بالإضافة إلى مواقع قرب الحدود العراقية السورية. وقد حلّت قوات الحكومة السورية محل الفصائل الموالية لإيران في بعض تلك المواقع، ما يعكس رغبة دمشق في تقليص تأثير هذه الفصائل على الأرض.
إخلاء المواقع العسكرية: خطوة استراتيجية
من أبرز المناطق التي شهدت إخلاءً للفصائل الإيرانية هي محيط مدينة البوكمال والميادين في دير الزور الشرقي. هذه المنطقة تُعتبر من أكثر المواقع حيوية بالنسبة للفصائل الموالية لإيران نظراً لقربها من الحدود العراقية، وهو ما يسمح لطهران بتمرير الأسلحة والإمدادات العسكرية بسهولة إلى سوريا.
ومع ذلك، وبسبب تصاعد التوترات مع إسرائيل وزيادة الضغوط الدولية، اضطرت الفصائل الإيرانية إلى إخلاء هذه المواقع.
الإخلاء شمل أيضاً مستودعات أسلحة وآليات عسكرية بالقرب من مطار الحمدان بريف البوكمال ومستودعات أخرى في بلدتي السويعية والسيال.
في الوقت نفسه، تم إخلاء خمسة مواقع مشتركة بين “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” اللبناني في دير الزور، لتحل محلها قوات من “الفرقة 17” التابعة للقوات الحكومية.
وتعكس هذه التحركات بوضوح رغبة الحكومة السورية في استعادة السيطرة على المناطق العسكرية التي كانت تخضع لنفوذ إيران، ما يعزز من جهود دمشق لتقليص الاعتماد على الفصائل الأجنبية.
التوترات الإسرائيلية الإيرانية: دافع إضافي للتحركات السورية
من بين العوامل الرئيسية التي دفعت الحكومة السورية إلى هذه التحركات هو التصعيد المستمر بين إيران وإسرائيل. الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع إيرانية داخل سوريا باتت متكررة ومؤثرة. ففي نهاية أيلول/ سبتمبر، استهدفت غارات جوية مجهولة مواقع “للحرس الثوري” الإيراني في مدينة دير الزور وريف البوكمال، مما أسفر عن مقتل 15 عنصراً وإصابة نحو 20 آخرين.
هذه الضغوطات العسكرية تزيد من تعقيد الوضع بالنسبة للفصائل الموالية لإيران وتدفع الحكومة السورية نحو تبني استراتيجيات جديدة تقلل من تعرض البلاد لضربات مشابهة.
ووفقاً لمصادر عسكرية، بدأت الفصائل الإيرانية بتغيير تكتيكاتها الميدانية، حيث لجأت بعض العناصر إلى ارتداء الزي المدني والتخفي بين المدنيين، في محاولة لتجنب استهدافها من قبل الطيران الإسرائيلي.
إغلاق المكاتب الإيرانية: نفوذ سياسي في تراجع
لم تتوقف التحركات السورية عند الجانب العسكري فقط، بل امتدت لتشمل الجوانب السياسية والاجتماعية أيضاً.
وفي خطوة تعكس نية الحكومة السورية الحد من النفوذ الإيراني في المجتمع السوري، أصدرت شعبة المخابرات العامة في دمشق قرارًا بإغلاق أربعة مكاتب استقطاب إيرانية في مدينة حلب وريفها.
هذه المكاتب كانت مخصصة لتجنيد الشباب السوريين للانضمام إلى الفصائل الموالية لإيران، مثل “فاطميون” و”حزب الله”.
المكاتب التي تم إغلاقها توزعت على اثنين في حيي الإذاعة والزبدية بمدينة حلب، وآخر في بلدة نبل شمال المدينة، ومكتب رابع في قرية عبطين جنوبها.
الإغلاق جاء بعد تحقيقات أظهرت تورط تلك المكاتب في استقطاب الشباب السوريين للانضمام إلى حركات تقاتل خارج سوريا، بما في ذلك “حزب الله” و”حماس”.
أثار هذا القرار غضب القيادات الإيرانية في سوريا، إلا أن الحكومة السورية بررت الخطوة بالضرورات الأمنية، في إشارة واضحة إلى رغبتها في تقليص نفوذ إيران على المستوى السياسي والاجتماعي، وليس فقط العسكري.
التقارب مع الدول العربية: فرصة جديدة لسوريا
في ظل التحركات الجارية لتقليص النفوذ الإيراني، تسعى دمشق إلى تعزيز علاقاتها مع الدول العربية، خاصة دول الخليج مثل السعودية والإمارات. فبعد سنوات من العزلة الإقليمية، بدأت سوريا في استعادة مكانتها داخل جامعة الدول العربية، العام الماضي، وهو ما فتح الباب أمام تقارب سياسي واقتصادي مع بعض الدول العربية التي تسعى لتقديم بدائل لدعم إيران.
الإمارات كانت من أوائل الدول التي بادرت بتعزيز علاقاتها مع دمشق، حيث تسعى لتقديم مساعدات اقتصادية تسهم في إعادة إعمار البلاد التي دمرتها الحرب.
وفي الوقت نفسه، تنظر السعودية إلى التقارب مع سوريا كوسيلة لتعزيز استقرار المنطقة وتقليل النفوذ الإيراني الذي يمثل مصدر قلق رئيسي لدول الخليج.
ويفتح هذا التقارب أمام الحكومة السورية خيارات جديدة لتخفيف اعتمادها على إيران، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية المتفاقمة والحاجة الماسة إلى الاستثمارات الخارجية لإعادة بناء الاقتصاد الوطني.
وفي هذا السياق، يمثل تعزيز العلاقات مع دول الخليج فرصة حقيقية لسوريا لتخفيف النفوذ الإيراني واستعادة استقلالها في اتخاذ القرارات الوطنية.
مخاطر التحالف مع إيران: ضرورة التخلي عن طهران؟
رغم أن الدعم الإيراني كان حاسماً في بقاء الحكومة السورية خلال سنوات الحرب، إلا أن التحولات الأخيرة في المشهد الإقليمي والدولي تجعل من التحالف مع طهران مخاطرة طويلة الأمد.
النفوذ الإيراني في سوريا أصبح يمثل عبئًا على الحكومة السورية، ليس فقط من الناحية السياسية بل أيضاً من الناحية العسكرية، مع تزايد الضغوط الدولية والإسرائيلية لاستهداف المواقع الإيرانية داخل البلاد.
علاوة على ذلك، يشكل النفوذ الإيراني عائقاً أمام استعادة سوريا لدورها الإقليمي وتحسين علاقاتها مع الدول العربية والغربية.
الحكومة السورية تجد نفسها اليوم أمام خيار استراتيجي: إما الاستمرار في التحالف مع إيران، ما قد يؤدي إلى مزيد من العزلة الدولية والمزيد من الهجمات الإسرائيلية، أو السعي نحو بناء علاقات جديدة مع الدول العربية والغربية التي قد توفر لسوريا فرصًا أفضل لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار.
التحالف مع إيران إلى أين؟
تشير التحركات الأخيرة للحكومة السورية إلى أن دمشق بدأت بالفعل في تقليص النفوذ الإيراني على أراضيها، سواء عبر إخلاء المواقع العسكرية أو إغلاق المكاتب السياسية المرتبطة بإيران.
وتأتي هذه التحركات في ظل ضغوط دولية وإقليمية كبيرة، ما يفرض على دمشق إعادة تقييم علاقاتها مع طهران.
في النهاية، يبدو أن سوريا تواجه اليوم تحدياً حقيقياً في موازنة علاقاتها مع حلفائها القدامى والجدد. التحالف مع إيران، الذي كان ضرورة في مرحلة ما، قد يتحول إلى عبء.