آفين علو / الحسكة
كانت ليلة هادئة في منطقة الشياح في ضاحية بيروت الجنوبية، حتى جاءت أصوات الغارات الجوية لتغير كل شيء. سهام مصطفى، التي عاشت سنوات من الاستقرار هناك مع أسرتها، وجدت نفسها فجأة محاصرة بالخوف والاضطراب. القصف كان يقترب، والأنباء عن استهداف مصالح “حزب الله” زادت من حدة القلق. لم يعد المنزل ملاذاً آمناً، وقرار البقاء أصبح خطراً على حياتهم.
ليلة طويلة قضتها سهام مع عائلتها على شاطئ الرملة البيضاء في بيروت، حيث فرّوا بحثاً عن مكان أكثر أماناً بعد التحذيرات الإسرائيلية بإخلاء بعض مناطق العاصمة.
كانت تلك اللحظات كافية لتدرك أن حياتها قد تغيرت للأبد، حيث فقدت الأمان الذي كان يحيطها، والبيت الذي اعتادت عليه لم يعد كما كان. خاصة بعد أن استهدفت إحدى الغارات الإسرائيلية القيادي البارز في حزب الله، حسن خليل ياسين، الذي وُصف بأنه “العقل المدبر” لعمليات الحزب، وكان المنزل قريباً جداً من موقع الهجوم.
الرحلة نحو المجهول بدأت حين قررت سهام أن تترك بيروت خلفها، متوجهة نحو الحدود السورية التي كانت قد غادرتها قبل عشر سنوات كلاجئة إلى لبنان. فالطريق لم يكن سهلاً، الآلاف من العائلات كانت تبحث عن الخلاص، والزحام على المعابر كان يزداد يوماً بعد يوم.
الأمان المؤقت
بعد عناء كبير، تمكنت سهام من عبور الحدود واستقرت مؤقتاً في مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا، حيث كان لها بعض الأقارب، بحسب ما قالت لموقع “963+”.
القامشلي لم تكن الوجهة النهائية، بل محطة انتظار. فالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، منحتهم بطاقة زيارة لمدة 15 يوماً، وبعد تلك المدة، لا تعلم سهام إذا ما كان سيتم تجديدها أم أنها ستقصد مكاناً آخر، فبيتها في بيروت لم يعد يصلح للعودة، والقصف مازال مستمراً. “لا أعلم متى سنعود”، هكذا قالت سهام وهي تتذكر بيتها المدمّر جزئياً.
سهام ليست الوحيدة التي هربت من جحيم الحرب. إذ وجدت كريمة بكري نفسها مجبرة على اتخاذ قرار صعب. تقول لـ”963+: “كنا في الحرب واضطررنا إلى مغادرة لبنان، ولكن أبنائي الكبار وزوجي اضطروا للبقاء هناك لحراسة البيت”.
فالإنذار الذي وصل إلى سكان منطقة الشياح في بيروت لم يترك مجالاً للتفكير؛ كان عليهم إخلاء المنطقة بسرعة. جمعت كريمة الأوراق المهمة مثل جوازات السفر، وخرجت هي وعائلتها من المنزل، قضوا يوماً كاملاً خارجه قبل أن يتوجهوا نحو الحدود السورية.
الرحلة لم تكن سهلة. “رافقنا الفرقة الرابعة”، تروي كريمة، متحدثة عن الرحلة الصعبة عبر الحواجز الأمنية ونقاط التفتيش. عند الحدود، تم أخذ جوازات سفرهم وتم منحهم أوراقاً بيضاء تخولهم البقاء في مناطق شمال شرقي سوريا لمدة 15 يوماً.
وعندما سألت كريمة عن مصير جوازاتهم، قيل لها إنها “إجراءات أمنية”. “الأولاد كانوا خائفين جداً، بسبب القصف كانت البيوت تهتز”، تضيف كريمة، بينما تتذكر اللحظات المرعبة التي عاشتها العائلة قبل مغادرتهم.
كريمة تعلم أن العديد من العائلات نزحت عبر دمشق، لكن المستقبل لا يزال غامضاً. “لا نعرف ماذا سيحدث. هل سنبقى هنا طويلاً أم ستعود الأمور للهدوء؟” تقول وهي تعيش مع أقاربها في القامشلي، غير متأكدة من المصير الذي ينتظرهم.
آلاء عجاج هي أيضاً تتذكر جيداً تاريخ 20 من الشهر، اليوم الذي بدأ فيه القصف في منطقة شتورا. كانت الرحلة من هناك صعبة للغاية، مليئة بالزحام والحواجز.
وتقول لـ”963+” وهي تعبر عن الحيرة التي يشعر بها الجميع: “الطريق كان مليئاً بالعائلات التي تبحث عن الأمان. لا نعرف إذا كنا سنبقى هنا أم لا”.
عندما وصلت العائلة إلى معبر الطبقة، تم أخذ جوازات سفرهم، مثلما حدث مع العديد من النازحين الآخرين، وتم تسليمهم أوراقاً بيضاء كتصريح مؤقت للبقاء. ورغم أن والدها وأخوها بقيا في لبنان مثل معظم الرجال الذين فضلوا البقاء لحماية ما تبقى، فإن آلاء وعائلتها الآن في مواجهة مستقبل غير مؤكد.
ومنذ بدء التصعيد الإسرائيلي، تدفقت موجات كبيرة من النازحين نحو الحدود السورية اللبنانية.
ووفقاً لتقارير منظمة الهجرة الدولية، عبر أكثر من 235 ألف شخص الحدود خلال أسبوعين فقط، بينهم 82 ألف لبناني و152 ألف سوري.
توزعت العائلات الفارة في سوريا بين مناطق الحكومة السورية، ومناطق الإدارة الذاتية ومناطق المعارضة المسلحة شمال غربي البلاد. وكل مجموعة حاولت البحث عن الأمان في ظل النزاع الذي لم يترك مكاناً خالياً من الخطر.
مصاعب الوصول
على الجانب الآخر، عاش جاسم المحمود تجربة أكثر صعوبة. فبعد أن دُمر منزله في بيروت بغارة جوية، لم يكن أمامه سوى الهروب. لكن طريق الهروب كان محفوفاً بالمخاطر.
عندما وصل جاسم إلى الحدود، شهد أحداثاً مأساوية. إذ شاهد أربعة أشخاص فقدوا حياتهم بسبب التعامل العنيف من قبل حواجز للفرقة الرابعة التابعة لقوات الحكومة على الحدود السورية.
جاسم نفسه اضطر لدفع مبالغ كبيرة تصل إلى 600 دولار كإيجارات للوصول إلى معبر الطبقة، ولم تتوقف العقبات هناك؛ حيث فرضت السلطات السورية عليه دفع 100 دولار لتصريفها عند الدخول. ورغم تعليق هذا القرار لاحقاً، كان جاسم قد دفع التكاليف مسبقاً، بحسب ما أشار خلال حديثه لـ”963+”.
المأساة لم تكن فقط للبنانيين الهاربين، بل إن السوريين العائدين من لبنان واجهوا معاناة أكبر. ففي الوقت الذي استقر فيه بعض النازحين اللبنانيين في مراكز إيواء خاصة تم تجهيزها من قبل الحكومة السورية لهذا الغرض، تحدثت التقارير عن أن السوريين تركوا يبيتون في الطرقات.
وتعرض شباناً سوريين للاعتقال على الحدود لإلحاقهم بالخدمة العسكرية، وعند ذلك لجأ آخرون إلى طرق التهريب لعبور الحدود، لكن هذا الخيار كان محفوفاً بالخطر. فتكاليف التهريب ارتفعت بشكل كبير، من 200 إلى 600 دولار، مما جعل الكثيرين عرضة للاستغلال.
ولم يكن الحال أفضل للفارين من لبنان والذين قصدوا شمال غربي سوريا، إذ كانت “الشرطة العسكرية” والفصائل التابعة لـ”الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، في انتظارهم لتمنعهم من العبور إلى مناطقهم، بحجة الحاجة إلى “استكمال الدراسات الأمنية”.
ولاحقاً سُمح لهؤلاء بالدخول عبر وساطات من الوجهاء والوجوه الاجتماعية في المنطقة، فيما واجه بعضهم بعد ذلك، الاستدعاء للتحقيق، بدعوى تأييد “حزب الله” اللبناني، ما أثار تساؤلات حول مدى صدق ذلك التحقيق وخاصة في ذلك الوضع الإنساني المتأزم.
ومع استمرار الغارات على لبنان، تبدو النهاية بعيدة المنال. فالحرب توسع نطاقها، ومعها ازداد عدد النازحين العالقين على الحدود الذين يبحثون عن ملاذ آمن، مضطرة لاتخاذ نفس القرار الذي اتخذته سهام وجاسم، وهو الهروب من جحيم الحرب إلى جحيم آخر، في رحلة نحو مستقبل غير واضح المعالم.