بيروت
في ليلة الجمعة 27 أيلول/ سبتمبر الجاري، هزّت انفجارات عنيفة الضاحية الجنوبية لبيروت. استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية المقر العسكري لـ”حزب الله”، الذي لطالما كان محصناً ضد أي هجمات سابقة. هذه المرة، كان الهدف مختلفاً. كانت إسرائيل تسعى إلى قتل حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، في عملية عسكرية دقيقة ومحسوبة.
أعلنت إسرائيل بعد الهجوم مباشرةً، عبر بيان رسمي، أن نصر الله قد قُتل، إلى جانب القيادي في الحزب علي كركي.
العملية التي أُطلقت بناءً على معلومات استخباراتية دقيقة، جاءت في إطار استراتيجيات عسكرية جديدة، كانت تهدف إلى إنهاء حياة نصر الله وتفكيك هيكل حزب الله بشكل نهائي.
لكن في الوقت نفسه، بدأت الشكوك تحيط بالحادثة. هل قُتل نصر الله بالفعل؟ أم أنه نجا كما فعل مرات عديدة في السابق؟
ليأتي بيان للحزب يؤكد فيه مقتل أمينه العام نصر الله، وجاء فيه: “لقد التحق سماحة السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله برفاقه الشهداء العظام الخالدين الذين قاد مسيرتهم نحوا من ثلاثين عاماً”.
وجاء في البيان، إن نصر الله قتل “إثر الغارة الإسرائيلية الغادرة على الضاحية الجنوبية”.
الضربة القاضية: استراتيجية استهداف نصر الله
على مدار سنوات، كانت إسرائيل تسعى للقضاء على “حزب الله”، الذي يمثل أكبر تهديد لها في المنطقة بفضل ترسانته الضخمة من الصواريخ والمقاتلين المدربين.
لكن الآن بدا أن إسرائيل قد وجدت اللحظة المناسبة. استندت العملية على معلومات استخباراتية دقيقة، تشير إلى وجود نصر الله في المقر العسكري للحزب في الضاحية الجنوبية.
ولكن وقبل أسبوع من الهجوم على نصر الله، شهد لبنان سلسلة من التفجيرات الغامضة التي استهدفت أجهزة البيجر الخاصة بقادة “حزب الله”.
ففي 17 سبتمبر الجاري، انفجرت أجهزة البيجر المستخدمة في التواصل الداخلي للحزب، مما أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من عناصر الحزب في حادثة أثارت الكثير من الجدل والتكهنات.
وتشير التقارير إلى أن إسرائيل ربما تكون وراء هذه التفجيرات، حيث تم استهداف أجهزة البيجر بشكل دقيق، ما أدى إلى انقطاع التواصل بين القيادات الميدانية.
كانت هذه الهجمات بمثابة تحذير مبكر لـ”حزب الله” بأن أجهزته الأمنية والاستخباراتية قد تم اختراقها، وأن الحرب النفسية بدأت قبل الحرب العسكرية.
وأظهرت التحقيقات أن أجهزة البيجر تم تزويدها ببرمجيات خبيثة أتاحت لإسرائيل التحكم في وقت تفجيرها عن بعد. هذه العملية تعكس مستوى جديداً من الحرب الإلكترونية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية إسرائيل في مواجهة “حزب الله”.
وبحسب مصادر عسكرية إسرائيلية، استهداف نصر الله كان جزءاً من خطة أوسع لتجنب هجوم بري للبنان، وتقليص قوة “حزب الله” بشكل استراتيجي.
العملية تمت باستخدام ضربات جوية موجهة، استهدفت البنية التحتية القيادية للحزب، والتي تُعتبر بمثابة القلب النابض للجماعة.
ومع الإعلان الرسمي من قبل الحزب عن مقتل قائده، تتابع إسرائيل الوضع عن كثب، وتستعد لرد محتمل من جانب الحزب.
وفي هذه الأثناء فإن أبرز المرشحين لخلافة نصر الله، هو هاشم صفي الدين، ابن خالته وصهر قاسم سليماني، وتم إعداده لهذا الدور منذ عام 1994 بعد دراسته في قم، حيث تولى رئاسة المجلس التنفيذي لـ”حزب الله”.
وصفي الدين له علاقات وثيقة مع الجناح العسكري للحزب ويُعتبر شخصية محورية في إدارة شؤون الحزب المالية والإدارية. كما أنه مدرج على قائمة الإرهاب الأميركية منذ عام 2017.
استهداف قيادات “المقاومة”: خلفية الهجوم
منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت العلاقات بين إسرائيل و”حزب الله” على حافة الانفجار. التصعيد العسكري كان حاضراً في كل لحظة.
العمليات الإسرائيلية استهدفت مواقع عدة للحزب، بما في ذلك مخازن الأسلحة ومنصات إطلاق الصواريخ. لكن العملية الأخيرة كانت مختلفة. كانت تهدف إلى قلب المعادلة تماماً.
إسرائيل، التي تعتبر “حزب الله” أكبر تهديد لها على حدودها الشمالية، اتبعت استراتيجية الضربات الاستباقية. كان الهدف هو تقويض القدرات العسكرية لـ”حزب الله” من خلال استهداف قياداته.
بالتوازي مع هذه الغارات، استهدفت إسرائيل مواقع لحلفاء الحزب، مثل قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا ولبنان.
والهدف من هذه العمليات كان منع الجماعة من تنفيذ أي هجمات مستقبلية، وإضعاف قدرتها على الرد.
تفكيك منظومة “حزب الله”
الهجمات لم تكن عشوائية أو مؤقتة. إسرائيل اتبعت نهجاً استراتيجياً يعتمد على تقويض البنية التحتية العسكرية والقيادية لـ”حزب الله”.
استهدفت الطائرات الإسرائيلية مراكز القيادة والسيطرة، التي يعتمد عليها الحزب في تنظيم عملياته وإدارة شبكاته اللوجستية والاستخباراتية.
تم تدمير مواقع حيوية، منها منصات إطلاق الصواريخ المتطورة ومخازن الأسلحة التي كانت تعد تهديدًا مباشرًا للأراضي الإسرائيلية.
إلى جانب الضربات الجوية، نفذت إسرائيل أيضاً عمليات استخباراتية عالية المستوى. تشير التقارير إلى أن العملية التي استهدفت نصر الله اعتمدت على معلومات دقيقة حصلت عليها إسرائيل من داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالزعيم. هذه المعلومات كانت مفتاح النجاح في الوصول إلى الهدف وتنفيذ الضربة.
استهدفت الغارات بشكل أساسي مراكز القيادة الميدانية، التي يديرها قادة عسكريون بارزون في “حزب الله”. علي كركي، الذي قُتل إلى جانب نصر الله، كان من أبرز هؤلاء القادة. فقد كان مسؤولًا عن تنظيم العمليات العسكرية على الحدود مع إسرائيل.
رد “حزب الله”: بين الواقع والتوقعات
لم يكن من المتوقع أن تمر هذه الضربة دون رد من جانب “حزب الله”. بالفعل، بدأ الحزب في إطلاق صواريخ باتجاه شمال إسرائيل بعد ساعات من الضربة. استهدفت الصواريخ مدينة صفد وعدة مواقع عسكرية إسرائيلية، مما أسفر عن أضرار مادية وإصابات.
لكن التساؤلات لا تزال قائمة حول حجم الرد المتوقع من “حزب الله”. هل سيتمكن الحزب من استعادة توازنه بعد مقتل زعيمه؟ وهل سيكون الرد العسكري كافياً لتعويض خسارة قائده؟
بعض المحللين يشيرون إلى أن الحزب قد يلجأ إلى تصعيد الصراع بشكل أكبر، وربما ينفذ هجمات نوعية على أهداف إسرائيلية حساسة. بينما يرى آخرون أن “حزب الله” قد يختار الانتظار حتى يتمكن من إعادة ترتيب صفوفه، والاستفادة من الدعم الإيراني لإعادة بناء قدراته العسكرية.
تداعيات مقتل نصر الله على الساحة الدولية
على الساحة الدولية، كانت ردود الفعل متباينة. إيران، الحليف الأقرب لـ”حزب الله”، أدانت الهجوم بشدة.
وقال المرشد الإيراني علي خامنئي إن على إسرائيل أن تعرف أنها لا تستطيع إلحاق ضرر كبير بالبناء القوي لـ”حزب الله”.
واعتبر خامنئي أن “لبنان سيجعل العدو الغازي الشرير والمنبوذ يندم على أفعاله”.
علي لاريجاني، مستشار المرشد الأعلى الإيراني، وصف مقتل نصر الله بأنه “جريمة حرب” وحذر من تداعيات خطيرة على استقرار المنطقة.
في المقابل، كانت الولايات المتحدة تراقب الوضع عن كثب. إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن دعت الطرفين إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد.
لكن في الوقت نفسه، كانت واشنطن حريصة على الحفاظ على دعمها لإسرائيل، مؤكدة أن من حقها الدفاع عن نفسها ضد أي تهديدات.
بينما تستمر الشكوك حول مصير نصر الله، تبقى الحقيقة الواضحة أن “حزب الله” تلقى ضربة موجعة، ربما تكون الأقوى في تاريخه.
هذه العملية لن تكون مجرد نهاية لزعيم بحجم نصر الله، بل قد تكون بداية لفصل جديد من الصراع في الشرق الأوسط.