“هذا بيتنا من زمن الحجر، وهو صامدٌ بعد”. هكذا يصف جايد عزام، من قرية تعارة بريف السويداء الغربي بالجنوب السوري، منزله الذي بني قبل نحو 200 عام، في زمن يبدو صمود هذا الطراز من العمارة التراثية مهدداً بموجة من المد الإسمنتي الذي ينتشر في أرجاء البلاد.
يقول عزام لـ”963+”: “في جبل العرب، كان خيار البناء بالحجر الصلد خياراً اضطرارياً، حيث البيئة بركانية، وثمة بركان هنا ثار يوماً. فالحجر البازلتي يشكل البنية الأساسية للبناء، لذلك ما زلنا نجد بيوتاً حجرية قديمة، فيما صار اليوم خياراً غير اضطراري، يلجأ إليه البعض على سبيل الزينة، فصارت المنازل إسمنتية بواجهة حجرية، لا أكثر”.
بحسب عزام، ما كان الإسمنت متوفراً في الماضي، “فكان الأهالي يبنون بيوتاً من طراز القنطار، فيضعون بين القناطر الربد أو الموازين، وهي أحجار مستطيلة، وما كان ممكناً صبّ الأسطح بالإسمنت المسلح، بل يرصف بحجارة كبيرة وصغيرة وتغمر بالتراب، ويُدحل بالمدحلة الثقيلة لرصّه، وهذه اسطوانة حجرية مثقوبة فيها قضيب من الحديد، فالرصّ مهمّ لمنع تسرّب المياه، كما يوضع التبن أيضاً في أثناء الرصّ، وتسّلط المياه إلى مزاريب في زوايا السطح”
بشكل عام، كانت البيوت في السويداء “غرفة لمنامة العائلة، وغرفة للطبخ وغسل الأطباق، ومضافة واسعة للمناسبات العامة والخاصة، ولاستقبال الضيوف، خصوصاً أن الاجتماعات تضم عائلات كبيرة، ولهذا يجب أن تكون المضافة واسعة”، كما يقول عزام. ولبناء الواجهات، كان الحجر المقصوب يفي بالحاجة، يعامل بطريقة فنية يدوية لتأتي القناطر مناسبة لحجم الغرفة. فإذا كانت المضافة كبيرة، تصمم بقنطرتين أو ثلاث، وإذا كانت الغرفة صغيرة، فقنطرة وحدة تكفي.
القنطرة وحجر القفل
ويشرح المحامي مفيد أبو عمار لـ”963+” كيف تبنى القنطرة: “كان الناس هنا يستخدمون الخشب لصنع قالب القنطرة، ثم يرصفون الحجارة بشكل متتالي على شكل قوس، ويضعون ’حجر قفل‘ للقنطرة، وهذا مهم جداً فإن لم يثبت جيداً، يمكن القنطرة أن تنهار، كما كانوا يضعون الأثقال عند قواعد القنطرة كي لا تسقط القنطرة”.
يضيف أبو عمار: “كانوا يستخدمون أدوات يدوية بدائية كالمهدّة والإزميل، وحين تطور الأمر، استعان بعض المعماريين بتقنيات ميكانيكية مساعدة، فكانوا يستخدمون بعض الأدوات بشكل شاقولي لرفع الحجر وتثبيته في الجدار، ويقصون الحجارة المستطيلة أو الربد لاستخدامها في الأسقف، ولبناء الحنت أو الجسر فوق باب البيت”.
يتذكر عزام أن الناس كانوا يتضامنون لتشييد أي بيت في الحيّ، من دون أي دعوة، “فتعاون الأهالي أساسي لبناء المنزل، وخاصة القناطر، ورجل وحده لا يستطيع أن يقيم القنطرة، بل يستدعي ذلك تعاون 10 أو 12 رجلاً. وبما أن الأخطار المختلفة كانت تهدد الناس هنا في القديم، كانت البيوت متلاصقة، وحين يدق الخطر باب أحدهم، يصعد إلى سطح بيته وبنادي ’وين راحوا‘ فيفزع إليه الجميع لعونه”.
خيش وتبن وتراب
من الداخل، كانت الجدران تغطى بطبقة من التراب “ومعه خيش وتبن بعد خلطها بالماء، كي لا ندسّ فيها أي نوع من الحشرات الزاحفة أو الطائرة”، كما يقول عزام، مضيفاً: “أما الطينة الأساسية للجدران فكانت من اللِبن بديل الإسمنت، فتدهن الجدران بالكلس الحي بعد خلطه بالماء”.
ولم يبنِ أهل السويداء بيوتهم وحدها بالحجر، بل بنوا أيضاً “الكواير” وهي جمع كوارة، وهي الصومعة الصغيرة التي تحفظ فيها المؤونة من الحبوب، “كما كانوا يصنعون أدوات منزلية كثيرة من طين وفخار، كالصحون مثلاً، يدهنونها بالكلس الأبيض ويضعون معه النيل الأزرق كي يحصلوا على لون جميل، ثم يلونونها بالزخارف يدوياً”، بحسب ما يروي عزام.
يملك أبو عمار منزلاً مبنياً بالحجر البازلتي في ريف السويداء، وآخر بناه بالأسمنت في مدينة السويداء. فما الفارق؟ يقول: “حجر البازلت صخري بركاني صلب يعزل الرطوبة ويقاوم عوامل الطبيعة، كان يستخدم في بناء القلاع، منه الحجر البازلتي الأسود والعباسي والغرانيتي والمغربي الأخضر”.
هجمة الإسمنت
بحسبه، الأسود هو الأكثر استخداماً في بناء المنازل بالسويداء، وهو يتميز بخاصة جمالية رائعة جداً. يقول: “حين أتى الناس إلى هذه المناطق في عام 1610 تقريباً، وجدوا فيها منازل أثرية بناها الرومان ومن أتوا قبلهم، وربما تعلم الرومان من السوريين القدماء كيف تبنى المنازل بالحجر البازلتي، فبنوا قلاعهم وشيدوا قصورهم. وعندما توالت الهجرات إلى الجبل وتوزع المهاجرون في قراه، وجد بعضهم منازل قائمة، فرمموها، وبنى آخرون منازل مشابهة للتي كانت قائمة مستخدمين الحجر الأسود نفسه، لأنه الأكثر توافراً في المنطقة، والأقل كلفة، وهكذا عمرت البلاد وتوسّع العمران”.
ما زالت المنازل القديمة في ريف السويداء مأهولة بالسكان، “أما في مدينة السويداء، فلجأ السكان إلى الشقق في الأبنية التجارية، بعدما أقيمت على أنقاض بعض البيوت القديمة، فخسرنا الكثير من تراثنا”، كما يقول أبو عمار، مضيفاً: “تشييد الأبنية الحديثة أقل تكلفة من بناء منزل بالحجر البازلتي الأسود، الذي كان في الماضي شبه مجاني، وهذه مسألة نأسف لها أشد الأسف، لأنها تحرمنا ميزةً تراثية احتفظ بها أجدادنا قروناً طويلة”.